المشهد السياسي التونسي و«اتفاق قرطاج»

04:26 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. إدريس لكريني

في عام 2016، وبعد مفاوضات مكثّفة، تمكنت عدة أحزاب سياسية تونسية من الائتلاف الحكومي السابق ومن خارجه ومن منظمات اجتماعية، من التوقيع على «اتفاق قرطاج» الذي تضمّن مجموعة من الأولويات التي يفترض أن تؤطر عمل الحكومة الوطنية التي اقترحها الرئيس الباجي قائد السبسي كمحاولة منه لتجاوز حالة الانتظار التي طبعت المشهد السياسي التونسي، مع توالي الارتباكات التي طبعت هذا الأخير على مستوى تحقيق أهداف الثورة، وخصوصاً ما تعلّق منها بسياسات التشغيل والتنمية وتراجع نسبة الاستثمارات الأجنبية والسياحة، وتصاعد حجم المديونية الخارجية للبلاد. وتتركز هذه الأولويات، في كسب رهان الحرب على الإرهاب الذي حصد الكثير من الأرواح وخلّف مناخاً من الارتباك والخوف، والسعي لتسريع وتيرة النمو، والانخراط في مكافحة الفساد وإرساء مقومات الحوكمة، إضافة إلى التحكم في التوازنات المالية، وإقرار سياسات اجتماعية ناجعة وفعّالة، وإرساء استراتيجية خاصة بالمدن والجماعات المحلية، ثم تعزيز نجاعة الأداء الحكومي واستكمال تركيز المؤسسات.
واكب تشكيل حكومة يوسف الشاهد قدراً كبيراً من التفاؤل بالنظر للنخب والطاقات التي احتضنتها، وللتنوع الذي طبع تشكيلتها، ما خلق في حينه أجواء من التفاؤل بصدد كسب الأولويات الملحّة التي تضمّنها الاتفاق، وبخاصة على مستوى ترسيخ الأمن، وتعزيز الثقة في المؤسسات، وجلب الاستثمارات، وإعادة الاعتبار للقطاع السياحي.
رغم الجهود التي بذلتها حكومة الشاهد على امتداد ما يقارب السنتين، والمكتسبات التي تحققت، على المستويات التشريعية والاقتصادية والأمنية.. إلا أن ثمة الكثير من الإشكالات والتحديات التي ظلت تطرح نفسها بحدّة أمام هذه الحكومة، كما هو الأمر بالنسبة لتزايد نسبة الفقر والبطالة داخل المجتمع، وتراجع قيمة الدينار، وضعف الاستثمار الأجنبي، وتضرر قطاع السياحة بصورة غير مسبوقة.
وفي محاولة لتطوير الأداء الحكومي، بادر الرئيس السبسي مرة أخرى في مارس الماضي إلى تشكيل لجنة مشتركة لبلورة وثيقة جديدة أطلق عليها «قرطاج 2»، تتضمن أولويات المرحلة المقبلة على المستويات الاقتصادية والاجتماعية، ورغم الاتفاق على عدد كبير من القضايا والأولويات التي تجاوزت الستين بنداً، إلا أن الخلاف اشتد بصدد مصير وتشكيلة الحكومة التي يرأسها الشاهد، ما جعل المفاوضات تتعثّر.
وفي هذه الأجواء وبعد أسابيع قليلة على مرور الانتخابات البلدية التي سجّل فيها حزب نداء تونس تراجعاً واضحاً، قام رئيس الجمهورية، بتعليق العمل بالوثيقة، وهو ما خلّف مواقف متضاربة، بين من دعا إلى تعيين رئيس حكومة جديد، يسمح بلمّ شمل الحكومة الوطنية ويضمن تماسكها كسبيل للانكباب على الأولويات المطروحة في الوثيقة الجديدة، وبين من اعتبر أن قرار الحسم في هذا الصدد (سحب الثقة من رئيس الحكومة) يظل بيد المؤسسة التشريعية، لا أمام الأحزاب السياسية والحركات الاجتماعية، على اعتبار أن الاتفاق هو في الأصل مجرّد مبادرة سياسية توافقية من رئيس الدولة. فحزب النهضة اعتبر أن خيار الإقالة لا مبرر له، كونه يمس بالاستقرار، وطالب بالإصلاح في إطار الاستمرارية.. بل ذهب البعض إلى اعتبار أن أي خطوة في هذا الاتجاه ستشكّل إضعافاً لرئيس الحكومة، وانقلاباً على سلطاته التي يضمنها الدستور.
الأزمة السياسية الراهنة التي تعيشها تونس، لا ينبغي أن تغطّي على المكتسبات التي تحققت على امتداد سنوات «ما بعد الثورة»، فتجربة التحوّل الديمقراطي في هذا البلد المغاربي تظلّ هي الأفضل في محيط إقليمي قاتم وصل فيه الأمر إلى الدخول في متاهات من العنف والصراع الذي عمّق المشاكل أكثر(اليمن، وليبيا وسوريا)..
ورغم التحديات التي ما فتئت تواجه التجربة السياسية التونسية منذ عام 2011، في علاقة ذلك بالإشكالات الاجتماعية والاقتصادية، والأمنية الناجمة عن التهديدات الإرهابية، فقد استطاعت تونس أن تقطع أشواطاً مهمة، مع إقرار دستور جديد حمل الكثير من المستجدات والضمانات، وتنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية متميزة عن سابقاتها، وإحداث الهيئة المستقلة للحقيقة والكرامة، التي تحاول الإسهام في ترسيخ المصالحة وطيّ صفحات صعبة من تاريخ البلاد، بالاستماع للمتضررين والسعي إلى إنصافهم..
أبرزت الممارسة، أن تواري الانتماءات السياسية والحزبية والخلفيات الضيقة في عدد من المحطات الحاسمة، أتاح للتونسيين كسب عدد من المعارك، فقد تعامل الجيش مع مرحلة الحراك بحنكة عالية، ما ساهم في بلورة التوافق المفضي إلى المصادقة على الدستور، فيما انخرطت الكثير من النخب الحزبية في بلورة التوافق المرغوب بين التيار العلماني والتيار الإسلامي، ما أفضى إلى الحدّ من حالة الاستقطاب داخل المجتمع.
وقد جاء منح جائزة نوبل للرّباعية التي تشكلت من الاتحاد العام التونسي للشغل، والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعة التقليدية، ونقابة المحامين، والرابطة التونسية لحقوق الإنسان، كاعتراف بالدّور البنّاء الذي لعبه هؤلاء الفاعلون على مستوى الدفع بعملية التحوّل السّلمي بالبلاد عبر استحضار المشترك ودعم التوافقات..
بغض النظر عن المواقف المتباينة بصدد الأزمة السياسية القائمة، وعن خلفياتها وأسبابها وأطرافها، فإن التأخر في بلورة اتفاق يدعم إرساء حكومة وطنية منسجمة، سيعمّق الشرخ بين عدد من الفرقاء السياسيين، ويزيد من تعقيد الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية..
تعيش تونس مرحلة مفصلية، تفرض تجاوز الخلافات الضيقة وهدر الوقت والانهماك على الأولويات التي لا يختلف بشأنها اثنان، بما يسمح بتجاوز الإشكالات المطروحة حالياً.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"