المصالحة وعقبات التحوّل الديمقراطي

03:30 صباحا
قراءة 4 دقائق

د.إدريس لكريني

ترتبط العدالة الانتقالية بمظهر إنساني يحيل إلى ردّ الاعتبار إلى ضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، والسعي لمنع حدوثها في المستقبل، وإلى آخر سياسي، يتّصل بتعزيز التحوّل نحو الديمقراطية بناء على أساس متين يدعم مشاركة الجميع.
إذا كانت العدالة الجنائية تتّسم بقدر من الصرامة والانضباط للنصوص القانونية، في مواجهة الجناة بغض النظر عن طبيعة جرائمهم ومراكزهم، فإن العدالة الانتقالية التي تقترن بالتحوّل والرغبة في ولوج مرحلة سياسية جديدة، غالباً ما تتسم بالتعاطي مع تركة الماضي بقدر من المرونة، رغبة في تعزيز مسارات التنمية والديمقراطية.
لا يمكن فصل تطور مفهوم العدالة الانتقالية عن التحوّلات الكبرى التي شهدها العالم على مستوى تطور منظومة حقوق الإنسان، فهي أحد تجليات هذه التحوّلات، كما أن تعزيز العدالة الجنائية الدولية وتنامي الاجتهادات الأكاديمية والفلسفية الداعمة للسبل البديلة لتدبير المنازعات والأزمات كلها عوامل أسهمت بصورة كبيرة في تطور المفهوم.

تتنوع أشكال العدالة الانتقالية بحسب الخلفيات التي تحددها والأهداف المتوخاة منها أيضاً، وعادة ما تتم في آلياتها عبر إحداث لجان لتقصي الحقائق بصدد الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وكشفها بتفصيل أمام الرأي العام، أو من خلال المقاربة القضائية ومحاكمة الجناة أمام القضاء المحلي أو الدولي، أو عبر تقديم تعويضات مادية (أموال وخدمات اجتماعية وتربوية ونفسية وصحية..) ومعنوية (تقديم اعتذار رسمي للضحايا وحفظ الذاكرة..) وجبر الضرر للضحايا عما لحق بهم من مآس ومعاناة، أو بإعمال إصلاحات مؤسساتية تسمح بتعزيز دولة المؤسسات وترسيخ سيادة القانون وتجاوز سلبيات الماضي وإكراهاته، عبر إصلاح وتطوير المؤسسات الأمنية والقضائية وتعزيز المنظومة القانونية، أو بالسعي لتحقيق مصالحة بين مختلف الفرقاء السياسيين، علاوة على وسيلة أخرى ترتبط بإقامة النصب والمتاحف لحفظ الذاكرة، بالإضافة إلى منع المتورطين في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان من تولّي مناصب حكومية أو ذات طابع سلطوي داخل مؤسسات الدولة..
وتشكّل لجان الحقيقة والمصالحة بمثابة العمود الفقري للعدالة الانتقالية، فإحداثها غالباً ما يأتي في مرحلة مفصلية من تطور الحياة السياسية للدول، ووجود قدر من التوافق بين مختلف الفرقاء السياسيين باتجاه طي صفحات الماضي..
إن الانتقال السلس نحو الديمقراطية وإقامة دولة عصرية تسمح بتحقيق السلم والتعايش بين مختلف الأطراف داخل المجتمع وتجاوز مظاهر الانتقام والإقصاء والعداء، لا يمكن أن يتم إلا عبر إعمال مصالحة وطنية تدعم هذا الانتقال، ذلك أن تراكمات الماضي السلبية غالبا ما تحول دون تحقق الاستقرار والتحوّل نحو الديمقراطية. وتقدّم جنوب إفريقيا تجربة مهمة في هذا الصدد، نجحت من خلالها في تحقيق وحدة وطنية داخل مجتمع مزّقته الصراعات وسياسات التمييز العنصري لسنوات.

إن المصالحة هي سعي للبحث عن المشترك داخل مجتمعات سمتها التنوع والاختلاف، وتجاوز الدخول في السجالات والصراعات بمنطق الغلبة بالنظر لتكلفتها الخطيرة على الدولة والمجتمع. فهي تسهم في إعادة الاعتبار المعنوي والمادي للضحايا وتيسّر اندماجهم داخل المجتمع وتساعد على تدبير الصراعات والأزمات، وعلى ترسيخ الاستقرار والأمن بأقلّ جهد وإمكانات ووقت.
يبدو أن هناك قدراً من الالتباس يعتور مفهوم المصالحة، وما إذا كان يعني الصفح والعفو أو المحاسبة، حيث تتباين الرؤى في هذا الإطار بين من يؤكد ضرورة تجاوز الإفلات من العقاب وكشف الحقائق تجاه المسؤولين عن جرائم الماضي في علاقتها بانتهاكات حقوق الإنسان، فيما نجد توجهاً آخر، وإن كان يستحضر أهمية المحاسبة وكشف الحقائق، فهو يؤكد أهمية إقرار العفو في مواجهة الجناة كسبيل لتجاوز الاحتقان أو أي مظهر من مظاهر الانتقام وعرقلة أي إصلاح منتظر.
تهدف لجان المصالحة إلى تصحيح التاريخ وتجاوز المعطيات الرسمية المغلوطة، وترسيخ التواصل بين مختلف الفرقاء والنخب داخل المجتمع، وتعزيز منظومة حقوق الإنسان عبر سنّ التشريعات والمصادقة على الاتفاقيات الدولية ذات الصلة، إضافة إلى ترسيخ الحكامة الأمنية من خلال إصلاح منظومة السجون، والقانون الجنائي..

أسهمت تجارب المصالحة التي مرّ بها الكثير من البلدان في أمريكا اللاتينية وإفريقيا وأوروبا الشرقية وآسيا في إغناء وإثراء السياق النظري للعدالة الانتقالية في العالم، حيث طبع التميز جل هذه التجارب التي جاءت في سياقات تاريخية وسياسية واجتماعية خاصّة.
وفي المغرب أسهمت تجربة الإنصاف والمصالحة التي أحدثت سنة 2004 في دعم الإصلاحات السياسية والدستورية التي اتخذت منذ بداية التسعينات من القرن المنصرم، رغم بعض الصعوبات التي رافقت عملها.
وتنطوي آليات المصالحة على أهمية كبرى في دول الحراك الذي شهدته المنطقة، بالنظر إلى دورها المفترض في تأمين الانتقال وإعادة الاعتبار لضحايا المرحلة السابقة، وتجاوز اختلالات الماضي بكل تجلياتها السياسية والحقوقية والاجتماعية والاقتصادية.. فما تشهده هذه الدول من ارتباكات، يبرز حجم المشاكل الخطيرة التي تراكمت على امتداد سنوات عدة، نتيجة للاستبداد والفساد وغياب الحريات، وهشاشة مؤسسة القضاء وعدم القدرة على تدبير الاختلاف المجتمعي في أبعاده العرقية والإثنية والدينية.. بشكل ديمقراطي..، وهي عوامل تجعل من أي مبادرات إصلاحية - في غياب مصالحة وطنية شاملة تستمد مقوماتها من أسس العدالة الانتقالية، كما هي متعارف عليها عالمياً - أمراً نسبياً وهشاً، بل وتجعل هذه الأقطار عرضة لتكرار الاستبداد وللسقوط في مزيد من الأزمات الاجتماعية والسياسية، بما يجعل الباب مفتوحاً أمام سيادة الانتقام وانتهاك حقوق الإنسان بمختلف المظاهر والأشكال.

[email protected]


 

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"