النخبة والعامة أمام المعرفة

05:54 صباحا
قراءة 5 دقائق

كتبت منذ قرابة عشر سنوات مقالاً في الأهرام بعنوان في جدوى الكتابة تحدثت فيه عن تراجع القراءة بمعناها المعروف وانصراف الأجيال الجديدة عنها مكتفين بما يأتيهم من خلال الكتابة الالكترونية وهي قراءة انتقائية بطبيعتها وليست دائما دقيقة أو موضوعية، وقد كتب الناقد الراحل رجاء النقاش مقالة في الأسبوع التالي ب الأهرام أيضاً تحت عنوان مصطفى الفقي وجدوى الكتابة وقد أضاف ذلك الأديب الكبير إلى ما كتبت ما يعزز وجهة نظري ويدعم التوجه العام لمقالي المشار إليه، وها أنا أعاود طرق هذا الموضوع بعد سنوات من المقال الأول لكي أستعرض طبيعة الوضع الثقافي الراهن ومدى إقبال المصريين والمصريات على القراءة سواء كانت من خلال الكتب أو الصحف أو الدوريات، لذلك دعونا نبحث في جدوى الكتابة والإقبال على القراءة بين النخبة والعامة باعتبارها أهم مصادر المعرفة في كل العصور السابقة وحتى نبحث في ما طرأ عليها في العقود الأخيرة تحديداً، وأجدني أمام الملاحظات التالية:

أولاً: إن شعباً تبلغ فيه الأمية التقليدية فضلا عن الأمية الالكترونية نسبة عالية لا نتوقع منه أن يكون قادراً على ملاحقة ما يخرج من المطابع وتصدره دور النشر، فالأمية بشقيها القديم والحديث عقبة كأداء أمام بصيرة البشر وقدرتهم على ارتياد المصدر الأول للمعرفة الإنسانية، ولابد أن نعترف هنا أن حجم الإصدارات محدود إذا قورن بحجم العناوين الصادرة في دول كثيرة من عالمنا المعاصر، لذلك فإن نسبة من يقرأون وإن كانت تزيد على من يكتبون إلا أنها لا تزال دون طموحات المجتمع العصري الحديث .

ثانياً: لا يجادل أحد بأننا نعيش عصر ثقافة الصورة بكل أبعادها المتطورة وجاذبيتها المتزايدة، لذلك تصدر ذلك الصندوق الصغير أو تلك الشاشة المسطحة الموجودين في معظم البيوت وأعني بهما جهاز التلفزة كل مصادر المعرفة الأخرى، خصوصاً مع انفتاح السماوات وتعدد الفضائيات وما تبثه من مواد ترفيهية أحياناً وسمومٍ فكرية أحيانا أخرى، أو مادة إعلامية تحكمية دائما، وهو ما جعل القراءة تذوي وتبدو نمطاً كلاسيكياً للمعرفة في ظل ثورة المعلومات وفورة الاتصالات والتحولات الكاسحة في عالم المعرفة، لذلك فإن التلفزة تلعب الآن دوراً خطيراً باعتبارها الوعاء المؤثر في عملية التعلم المعاصرة .

ثالثاً: لقد لاحظت ويلاحظ معي الجميع، أن ما يقرب من تسعين بالمائة من قراء الصحف يكتفون بالعناوين ولا يغوصون في أعماق ما هو منشور أو جوهر ما هو مكتوب، ولقد عانيت شخصياً من الانتقاء التحكمي من جانب بعض الصحف عند اختيارها لعناوين اللقاءات الصحفية وانتقاء ما يروق لها ويخلق منها جوا من الإثارة المطلوبة وأهميتها في التوزيع، بحيث يبدو العنوان منتزعاً من السياق العام للحديث الصحفي، ولقد تعرضت لأزمةٍ أخيرة بسبب ذلك رغم أن سياق الحديث كله كان يلح على مكانة الوطنية المصرية والتخوف من التدخلات الأجنبية . لذلك فإن الكثير من المضامين المهمة في المقالات لا تصل إلى قارئها الذي يكتفي بالعناوين وحدها وهي التي تشكل بالتالي رؤيته لكل ما كتب .

رابعاً: لاحظنا في السنوات الأخيرة تراجعاً عاماً في معدلات القراءة بين الأجيال الجديدة بسبب المنافسة الشديدة مع باقي مصادر المعرفة، وما يلحق بها من تثقيفٍ وترفيه برغم جهود الدولة وإتاحتها الكتاب بأسعارٍ زهيدة تكاد تكون في متناول يد معظم الطبقات الاجتماعية . ولعلنا نتذكر الآن تحديداً مشروعي القراءة للجميع ومكتبة الأسرة ولكن لا حياة لمن تنادي .

فالكتاب يكاد ينزل عن عرشه ولا يصبح خير جليس في هذا الزمان . فتلك ظاهرة محزنة لأن للكتب عبر التاريخ سلطانها ولصفحاتها رائحتها، بل إنني لازلت أتذكر في خيالي شكل بعض صفحات الكتب التي قرأتها في طفولتي وتركت بصماتها على حياتي كلها .

خامساً: إن الانقلاب الكبير الذي جاء به عصر الكمبيوتر وشبكة المعلومات قد زاحم هو الآخر الإقبال على الكتاب وجعل المادة الالكترونية تسبق المادة الأصلية، وكأن العقل البشري يخترع ما يتفوق عليه ويتجاوز حدوده! ولاشك أن الزخم الهائل من المعلومات المتدفقة بغض النظر عن مصداقيتها قد جذب مئات الملايين حول العالم وصرفهم عن القراءة سواء كانوا من النخبة أو العامة، من الصفوة أو الدهماء، فلقد وصل جهاز الكمبيوتر إلى كل مكان، بل وانتشرت مقاهيه أمام من لا يملك، إننا أمام عصر فيه تحولات ضخمة وتغيرات كبيرة تحتاج منا إلى مواجهة أمينة مع حقيقة تراجع القراءة رغم تصاعد الكتابة في عالمٍ تحكمه معايير السرعة والاختصار والحاجة إلى الإيجاز .

سادساً: أود أن أركز هنا على قضيةٍ مهمة أسميها ديمقراطية المعرفة، وهي تلك التي تتيح مصادرها للجميع بغير تفرقة من حيث المستوى الاجتماعي أو التعليمي أو حتى الثقافي، فمنابع المعرفة متدفقة ومصادرها متاحة وفي متناول الجميع تقريبا لذلك فإن التفرقة بين النخبة والعامة في هذا الشأن أصبحت غير ذات موضوع وأضحت تعطي نتاجها للجميع بلا تفرقة أو تمييز . إن قضية المعرفة يجب أن تسبق قضايا الحرية والديمقراطية والمواطنة لأنها تمثل الأساس النظري لهذه القضايا جميعا، فالتقدم الآن يتركز في قضية المعرفة بكل أبعادها وتطوراتها، فالأمم الراقية والشعوب الناهضة تتحدد مكانتها بما تقدمه من أسباب المعرفة وعوامل التقدم، ولعله من المناسب هنا أن نؤكد أن التخلف قرين طبيعي لغياب المعرفة ونقص المعلومات .

إن الرسالة التي أريد لها أن تصل إلى القارئ مؤداها أننا نعيش عالماً مزدحماً ومتناقضاً وقلقاً ولقد علمنا تاريخ الحضارات أن حيازة المعرفة هي المدخل الطبيعي للتفوق والقدرة على الابتكار والسعي نحو التجديد، وإذا كنا نتوهم أن النخبة تستأثر بالقدر الأكبر من المعرفة الإنسانية فإن تقديرنا للأمر ليس دقيقاً على إطلاقه، ولابد لنا أن ندرك أن شيوع ديمقراطية المعرفة قد أدى إلى نشرها في كل مكان، حتى أن من يسعى إليها سوف يجدها متاحة في يسرٍ وسهولة لذلك لم تعد هناك تفرقة حدية بين النخبة والعامة تجاه قضية المعرفة بل أصبح من المتعين علينا أن نتعامل معها كالماء والهواء مثلما كان التعليم الذي طالب به الراحل الدكتور طه حسين وزير المعارف العمومية ذات يوم في بداية النصف الثاني من القرن الماضي، وليت المسؤولين عن التعليم والثقافة والإعلام يدركون ذلك التحول الخطير في قضية المعرفة حتى يتمكنوا من التعامل معها في موضوعية وشفافية والتزام . . إنني أريد لأمتي وأتمنى لبلدي الإسراع على طريق المعرفة دون التقيد باختلاف العقائد أو تعدد الجنسيات، فالمعرفة لا وطن لها مثلما هو العلم لا جنسية له، ولن أختتم الحديث عن هذا الموضوع المهم دون الإشادة بالأجيال الجديدة في صراعها المحموم من أجل البقاء ونضالها الحاد حتى ترتفع رايات الحداثة والمعاصرة في وطنٍ عظيم علم التاريخ في طفولته ولقن الدنيا دروس البناء الحضاري وشيد الكيان المعرفي وبنى الهرم الثقافي .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"