النضال لكسب مفتاح العصر

02:16 صباحا
قراءة 3 دقائق

في مقالة الأسبوع الماضي تبين كيف أن فعل الأمم في التاريخ، مهما كان حجمها وبغض النظر عن نظامها السياسي والاقتصادي، يرتبط الى حد كبير بوجود وبحيوية منظوماتها العلمية الثقافية.

والمنظومة هي شبكة من ثلاثة مكونات تتمثل في المدخلات (المعارف العلمية والتقانية والأطر البشرية التي تنتج المعرفة وتطورها وتنقلها الى الآخرين)، وفي العمليات والمؤسسات (وهي التي تقوم بوضع استراتيجيات وتنفيذ خطط لإنتاج المعارف والتقانة من خلال مؤسسات من مثل الجامعات ومراكز البحوث والشركات وغيرها) وفي المخرجات (وهي عبارة عن تجسيد للمعرفة في منتج مادي أو في طريقة جديدة لأداء عمل أو خدمة). المنظومة تلك تتفاعل مع بيئتها تفاعلاً تكاملياً، فهي تحتاج إلى بيئة سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية تكملها وتدعمها، لكنها هي أيضاً بدورها تؤدي الى تغيير وتطوير لتلك البيئات من دون استثناء، وقد أصبح بدهياً أن تجذر العلوم والتقانة في أي مجتمع يؤدي بصورة أوتوماتيكية الى تغييرات وتحولات مجتمعية هائلة فيه. وما دامت السياسة والثقافة والجامعات والمدارس ومؤسسات الدين والاقتصاد قد فشلت جميعها في تجديد وتحديث الثقافة العربية الإسلامية بعامة وفي بناء ما يعرف بالأجواء الصالحة والحاضنة لثقافة العلوم والتكنولوجيا في مجتمعات العرب والمسلمين بخاصة، فإن المنطق يقتضي التفتيش عن وسيلة جديدة إضافية لإحداث تغييرات كبرى في المجتمعات العربية، وسيلة تتمثل في اقتحام حقل العلوم والتكنولوجيا وجعله واحداً من أهم وأعلى الأهداف القومية في المشروع النهضوي العربي.

إن الاتفاق على هذا الأمر ليس فذلكة نظرية في مشروع نهضوي لم يتحقق منه شيء. فالمقصود هو نقل حقل العلوم والتكنولوجيا من كونه وسيلة، أو هدفاً ثانوياً في الأجندة السياسية العربية في أحسن الأحوال، إلى مكانة جديدة ومستوى أعلى يجعله في مصاف الأهداف القومية الكبرى الأخرى. ولهذه الخطوة متطلبات وشروط. في قمة المتطلبات وجود كتل وقوى ومؤسسات مجتمعية عربية متكاتفة ومتناغمة تدافع عن هذا الهدف وتلاحق الانتقال التدريجي المتصاعد إليه وتحارب القوى الامبريالية الرأسمالية التي تقف في طريقة وتجيّش قوى المجتمع الرسمية والمدنية لأخذه مأخذ الجد ولإدخاله كعنصر مستقل رئيسي في كل استراتيجيات التنمية الوطنية والقومية.

وبالطبع، هناك مئات المتطلبات والشروط التفصيلية الأخرى التي أوضحتها بشكل دقيق استراتيجية تطوير العلوم والتقانة في الوطن العربي التي وضعتها المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة، وناقشها المفكرون والاختصاصيون العرب في ندوات عديدة، وصدرت بشأنها الكثير من الكتب والتقارير والتوصيات.

لكن المشكلة ليست في وعي وتقدير هذا الهدف فقط، وإنما في وعي وتقدير مكانته وخطورته ومحوريته في التغيرات الكبرى وفي الانتقال به الى آفاق الفعل والنضال اليومي المستمر من قبل قوى منظمة وفاعلة تماماً مثلما نفعل مثلاً مع هدف الديمقراطية أو الوحدة العربية.

لماذا إعطاء هذه الأهمية لهذا الموضوع؟ لثلاثة أسباب.

أولاً، للمكانة الكبرى التي تلعبها منظومة العلوم التقانية في حضارة العصر. في منتصف القرن الماضي بينت إحدى الدراسات ان القيمة المضافة في الانتاجية والدخل بالنسبة للفرد الأمريكي يرجع منها حوالي 88% للتطوير التكنولوجي وفقط 12% لاستخدام رأس المال. الدكتور محمد عبدالسلام، الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء، أكد منذ نصف قرن ان للدفاع عن حضارتنا وثقافتنا يجب أن نضمن أننا لن نخسر المباراة في الفيزياء الحديثة أو التكنولوجيا الحيوية.

ثانياً، إن فرصة توفر الأموال البترولية العربية هي فرصة تاريخية لتنفيذ ذلك بسرعة هائلة.

ثالثاً، لأن أمامنا أمثلة في الواقع الدولي. في العالم الغربي هناك دول صغيرة مثل السويد وسويسرا نجحت في بناء قدرة تكنولوجية متقدمة في صناعات متوسطة وصغيرة، وفي العالم الثالث هناك تجارب كوريا وتايوان والهند والصين والبرازيل في اختراق مبهر للحاضر التكنولوجي.

لنناضل من أجل الديمقراطية والوحدة وغيرهما، ولكن لنناضل أيضاً من أجل كسب هذا المفتاح الذهبي.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"