النفوذ الإيراني وبداية النهاية

03:30 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود حسونة

قديماً قالوا «من يطمع في كل شيء يخسر كل شيء»، وهي مقولة لا تنطبق على الأفراد فقط، ولكن على الدول أيضاً، ومن يتأمل ما يحدث حولنا، يدرك أن السحر قد انقلب على الساحر، بعد أن انتفض الشعب العراقي بشكل أساسي على النفوذ الإيراني الذي أخذ العراق إلى القاع بعد أن كان من دول القمة، اجتماعياً واقتصادياً وسياحياً.
وبعد أن سيطرت إيران على مفاصل العراق مع الغزو الأمريكي 2003 وتحكمت في صناعة القرار، انتشر الفساد واضمحلت الموارد، وصرخ الناس من آلام الجوع والفقر وضياع الحقوق، واستهدفت الصرخة إيران؛ لأنها تحمي أساساً طبقتها الفاسدة، بطرق استفزت الشعب العراقي الحريص على كرامته والمتمسك بحقوق السيادة والرافض لكل مظاهر التبعية.
اليوم يصرخ الشعب العراقي ضد النفوذ الإيراني، وغداً ستصرخ شعوب أخرى ضد تدخلات إيران وإشعالها فتناً وحروباً بين أبناء هذا البلد أو ذاك.
نعم، انقلب السحر على الساحر، وبعد أن كانت إيران الفاعل في دول المنطقة، والمحرك للفتنة في أكثر من بقعة، والساعي لبسط نفوذه هنا وهناك، أصبحت هي المفعول به، المهدد والمنبوذ والمرفوض شعبياً، والمطارد سياسياً والمعاقب دولياً، وكل ذلك بسبب أطماع لا حدود لها لدى الطبقة السياسية الحاكمة والمتحكمة في شؤون البلاد والعباد هناك.
العراقيون نبذوا الطائفية وصناعها ومرجعياتها، واعتبروا إيران هدفاً لهم بعد أن أيقنوا أنها تكرس كل جهودها للسيطرة على القرار ونشر الفتنة وزرع الفوضى في أنحاء بلاد الرافدين. ومثلما كان الفعل قاسياً، جاء رد الفعل أشد قسوة وأكثر حسماً «إيران بره بره.. العراق تبقى حرة»، وتقدمت المظاهرات مدن الجنوب التي توهمت إيران أنها أصبحت لها، وأوهمت أنها تكون عليها أبداً، وقاد الاحتجاجات في مختلف المدن أبناء الطائفة الشيعية الكريمة، الذين رفضوا التبعية باسم المذهب للمرشد في إيران، وتمردوا على ولاية الفقيه، وأزعجتهم ممارسات الحشد الشعبي وتحكم قاسم سليماني في المسار والمصير.
الاحتجاج العراقي لم يقف عند حد الشعارات الغاضبة والحاسمة بعدم القبول بأي نفوذ للولي الفقيه، ولكن وصل إلى حد إحراق العلم الإيراني، وإنزاله من على قنصليات طهران ومنها قنصليتها في كربلاء، ووضع العلم العراقي بدلاً منه، وتمزيق صور خامنئي ودهسها بالأقدام.
ليس مجرد تمرد، ولكنه إهانة لكل من تسبب في خلق الفتنة ونشر الفساد واستحواذ فئة على ثروة ومقدرات شعب أبيّ وصاحب حضارة يتفاخر بها كل العرب وتاريخ من القيادة والإدارة ونشر العلم والتصدي للطامعين في جغرافيا المنطقة.
ما يحدث في العراق، هو بداية النهاية للنفوذ الإيراني في المنطقة، وهو ليس كلاماً مرسلًا بقدر ما هو حقيقة أدركتها الطبقة الحاكمة في إيران، وتحدث بعض رموزها عنها متوجسين من عواقب آتية، وتعاملوا مع ما يجري في العراق وكأنه يحدث داخل بيوتهم، وخرج المرشد الأعلى بنفسه ليحذر منه ومن نتائجه، ويصف ثورة الشعب العراقي بأنها أعمال شغب، وأنها جاءت نتيجة مؤامرات أعداء الإسلام، إدراكاً منه أن نيران الغضب المشتعلة في محافظاته، قد تمتد وتتمدد لتدخل إيران، وتحرك شعبه ضد ممارسات جلبت له نفس ما جلبته للشعب العراق، جوع وفقر وعوز ونقص في الخدمات، بل وزيادة على ذلك قمع للحريات.
علي السيستاني المرجع الشيعي الأعلى في العراق لم يركب الموجة الإيرانية، واتخذ موقفاً مناقضاً لخامنئي، معترفاً بمشروعية الانتفاضة الشعبية، ومحذراً المتدخلين الخارجيين في الشأن العراقي من مواصلة تدخلهم، وأيضاً انحاز الزعيم الشيعي مقتدى الصدر للحراك، وتبنى مطالب المتظاهرين.
من المؤكد أن ما يحدث في العراق لن يسقط نظام إيران اليوم ولا غداً، وهذا أمر لا يعني من قريب أو بعيد الغاضبين في الدولتين الذين يدركون أن هذا شأن إيراني لا يخصهم في شيء، ولكنه بداية النهاية لنفوذ دولة لم تتدخل في مكان إلا وأخذت أهله إلى التهلكة، دولة لديها من الأطماع ما يفوق قدراتها، ولا يرضي شعبها، خلقت فتناً في العراق ولبنان وسوريا واليمن وفلسطين، وتجاوزت حدود آسيا، وسعت للعبث بدول عربية في إفريقيا، بل وتجاوزت كل معقول ومنطق، وذهبت للعب على أرض أمريكا اللاتينية.
اليوم يصرخ الشعب العراقي ضد النفوذ الإيراني، وغداً ستصرخ شعوب أخرى ضد تدخلات إيران وإشعالها فتناً وحروباً بين أبناء هذا البلد أو ذاك، وبعد غد أو بعد بعد غد ستلسع نار غضب الشعب الإيراني مَن صادروا إرادته وأكلوا لقمته وأرسلوا أمواله للخارج لتسليح وشراء ولاءات ميليشيات تجلب لهم نفوذاً في دول وقارات، ومثلما بدأنا ننتهي، بأن «من يطمع في كل شيء يخسر كل شيء» إن لم يكن عاجلاً فآجلًا.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"