الوعي الغائب والرؤية المفقودة

05:14 صباحا
قراءة 5 دقائق

عكفت في السنوات الأربعين الماضية على متابعة ملف الوحدة الوطنية المصرية وتطورات الشأن القبطي، حيث كانت أطروحتي للدكتوراة من جامعة لندن حول موضوع الأقباط في السياسة المصرية، مع دراسة تطبيقية على مكرم عبيد باشا القطب الوفدي الكبير وسكرتير عام الحزب لمدة تصل إلى خمسة عشر عامًا، وقد كان ذلك السياسي المصري متحركاً على ساحة الوطن كله ولم يكن حبيس طائفته . من هنا جاءت قيمته وتميزه في تاريخ الفترة الليبرالية من الحياة السياسية المصرية (19-1952) . ولقد اكتشفت من دراستي الطويلة لقضية العلاقة بين المسلمين والأقباط في مصر أن الجبهة المصرية في مجملها قوية ومنيعة، ولكن تتسلل إليها أحياناً من خلال مراكز الضعف فيها بعض الأفكار الخاطئة والتأويلات المغلوطة التي تؤدي إلى التحريض المتبادل وضرب الأمة المصرية في أغلى ما لديها وهو وحدتها الوطنية .

ولقد تضمن كتابي عن الأقباط في السياسة المصرية منحنى بيانياً للعلاقة الطردية بين عدد أعضاء حزب الوفد في البرلمان وبين نسبة الأقباط بينهم، فقد كان ذلك في العصر الملكي عندما كان الوفد هو وعاء الحركة الوطنية وحزب شعاراته ليبرالية علمانية تتمسك بالوحدة الوطنية .

وعندما قامت ثورة يوليو 1952 خلا تنظيم ضباط الأحرار تقريباً من الأسماء القبطية، وأتذكر أن الدكتور لويس عوض قد قال لي ذات يوم ونحن على مائدة الغداء في العاصمة البريطانية (لندن)، إن الرئيس الراحل عبدالناصر كان يكلف جهاز المباحث العامة بمتابعة ما يدور في الكنائس، فقلت له: ولكنه كان يرسلهم أكثر لمتابعة ما يدور في المساجد أيضًا، ومع ذلك لم نسمع عن أحداث طائفية ذات بال في العصر الناصري، إذ إن عبدالناصر قد ضرب التيار الإسلامي متمثلاً في جماعة الإخوان المسلمين ضربتين قاصمتين، أولاهما عام 1954 والثانية عام ،1965 وهو ما أدى إلى إحساس عام بأن نظام الحكم يقف محايداً بين أتباع الديانات، وعندما تولى الرئيس الراحل السادات السلطة، لعبت الكيمياء المفقودة بينه وبين البابا الجديد شنودة الثالث دوراً سلبياً أدى إلى تداعيات مؤسفة انتهت بالنفي الاختياري للبابا في الدير، بل اغتيال الرئيس السادات في يوم مشهود من أيامه المجيدة، وأنا أظن مخلصاً أن الرئيس مبارك يقف من الأقباط موقفاً موضوعياً وجاداً ويتعامل معهم كمصريين بالدرجة الأولى، ولقد سمعت منه مباشرة كيف كانت أم زميله القبطي في المدرسة تعتني بهما معاً وهما يستذكران الدروس معاً بلا تفرقة أو تمييز، لذلك كان طبيعياً أن يسترد الأقباط في عهده قدرًا لا بأس به من حقوقهم الطبيعية، ومع ذلك اشتعل مسلسل الفتن الطائفية لأسباب متعددة لعلنا نناقشها في النقاط التالية:

أولاً: إن نشاط الفيروس الطائفي وانتشار جرثومة الفتنة هما نتاج لحالة الاحتقان العام والشحن الديني من الطرفين، وانتشار الشائعات المغرضة والتهويل في تصوير الأحداث على نحو يوغر الصدور وينشر التوتر، كما أن المناخ الدولي للسنوات الأخيرة يشجع على ذلك، إذ إن هناك حالة تربص متبادلة بين الإسلام والغرب المسيحي وهو ما ينعكس بالضرورة على المناخ العام ويؤدي إلى التصعيد في حالة العداء أحياناً بين المسلمين وغيرهم .

ثانياً: أدعي أن هناك مسؤولية تقع على كاهل المؤسسات الدينية في الجانبين، فأنا لا أفهم كيف يلوذ القبطي بالكاتدرائية ويتظاهر المسلم أمام الأزهر، إذا كانت هناك قضية دينية أو مشكلات طائفية، فالأصل هو أن مصر دولة مدنية يتصدر المادة الأولى من دستورها مبدأ المواطنة بما يحمله من مساواة في المراكز القانونية والحقوق والتكاليف بين أبناء الوطن الواحد على اختلاف مواقفهم وتنوع أوضاعهم، مسلمين ومسيحيين، رجالاً ونساءً، فقراء وأغنياء . فالمواطنة تعني المساواة رغم الاختلافات بين المواطنين، لذلك، فإنني أتصور أن المصريين مسلمين ومسيحيين يلجأون عند الحاجة إلى سلطات الدولة التشريعية متمثلة في البرلمان أو القضائية متمثلة في مقر محكمة النقض والتنفيذية متمثلة في القصر الجمهوري، أو مقر مجلس الوزراء، فنحن جميعاً مصريون قبل أي اعتبار آخر .

ثالثاً: إن استقراء تاريخ العلاقات الإسلامية المسيحية في مصر يوحي بأن هناك أرضية مشتركة وقدرًا من الفهم المتبادل، فقد وحدت بينهما الحركة الوطنية والثورة الشعبية وامتزجت الدماء في ساحات القتال عندما كان الوطن يحارب من أجل كرامته ومصالحه، ولست أجد سبباً قوياً للتحريض على الكراهية أو تحقير الآخر، خصوصاً أن الكل يلتقي في ساحات المدارس والمعاهد والجامعات وفي التجنيد بالقوات المسلحة، فالتعليم والجيش بوتقتان تنصهر فيهما الأمة ويشتد بهما النسيج الوطني، وأنا ممن يظنون أن على الأغلبية العددية مسؤولية رعاية الأقلية العددية، بل مجاملتها أيضاً، ولقد تعلمت من تجربة عملي لعدة سنوات في الهند أن إعطاء الأقلية ميزات أكثر يؤدي إلى ارتياح أكبر في الوطن كله، والهند بالمناسبة لم تحدد ديانة معينة لأي وظيفة كبرى في بلد المليار نسمة، بل تركتها دائماً لعنصر الكفاءة وحدها .

رابعاً: ألاحظ أننا نتعامل مع المشكلات الطائفية أحياناً بإنكار وجودها، أو التهويل بشأنها أو التهوين من أمرها أو الاستخفاف بتاريخها، ونحن نرى أن كل ذلك مرفوض، فالمنطق السليم يقضي بالتعامل السوي مع المشكلة في إطارها الحقيقي، علماً بأن إنكار وجودها والاستخفاف بتأثيرها هو حماقة يدفع الوطن ثمنها من رصيده في أقرب وقت .

خامساً: إن التحميل على أجهزة الأمن وحدها لكل مشكلات الوطن بدءًا من إنفلونزا الخنازير والطيور مروراً بالفتن الطائفية وصولاً إلى مكافحة الإرهاب هو أمر لا نكاد نجد له نظيرًا في أي دولة أخرى في العالم المعاصر، فالحلول الأمنية وحدها لا تكفي والحاجة إليها تأتي إذا وقعت الواقعة، ولكن الأساليب الوقائية وأيضاً الطرق العلاجية لا تكون أبداً أمنية فقط، بل هي ثقافية سياسية إنسانية .

سادساً: إننا نطالب بتغليظ العقوبة على مثيري الفتنة والمحرضين على الكراهية، فإذا كنا قد قبلنا الإعدام حتى الموت عقوبة لمتاجري المخدرات ومغتصبي الإناث، فما بالنا بمن يضربون الوطن في مقتل ويصيبونه في القلب ويغتصبون استقراره ويتاجرون بأمنه ويحيلون أجواءه إلى اضطراب وفوضى ويعبثون بمستقبله، إننا في حاجة إلى تشريع قاطع يجرم الأفعال الطائفية ويشدد العقوبة على مثيري الفتن الذين باعوا ضميرهم قبل أن يبيعوا وطنهم .

سابعاً: لقد جعلت عنواناً لهذه القضية الوعي الغائب والرؤية المفقودة لكي أشير إلى حقيقة مؤداها أن الحل على المدى الطويل لا يتحقق إلا من خلال التربية الوطنية الصحيحة التي تستند إلى الرؤية الشاملة والوعي الكامل ولا تقف عند حدود طائفية، فالمؤسسات الدينية ومصادر الثقافة وأدوات الإعلام وقبلها جميعاً التعليم في كل مراحله هي منظومة واحدة مسؤولة عن صياغة مستقبل الوطن واستشراف ملامحه، فالذين يشبون على التسامح الحقيقي والمحبة المتبادلة سوف يكونون بالضرورة درعاً واقية لأمن الوطن وسلامته .

تلك قراءة في المشهد الحزين الذي عاشته بعض قرى الصعيد ومدنه نتيجة بعض التصرفات غير المسؤولة والأعمال التي لم ترتفع إلى مستوى شراكة الوطن الواحد والإحساس بالمخاطر التي تحيط به والقوى التي تتصيد حاضره وتتربص بمستقبله، إننا - أيها السادة - محتاجون إلى قراءة جديدة للأحداث التي جرت وإلى حلول غير تقليدية للمشكلات التي وجدت، ولعلي أطالب هنا بالإسراع في إصدار القانون الموحد لدور العبادة والذي سوف يمتص ما لا يقل عن خمسين في المائة من أسباب الاحتقان الطائفي، ويرفع عن كاهل الوطن شبهة التمييز أو تهمة التقصير، لأنه وطن عريق التقت على أرضه الحضارات وامتزجت الثقافات وتعايشت الديانات وحتى لا نتباكى ذات يوم على الرؤية الغائبة والوعي المفقود .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"