انتقال سياسي أم تحول ديمقراطي في العالم العربي؟

04:57 صباحا
قراءة 4 دقائق

تكثر التعريفات الأكاديمية لمفردات مثل الانتفاضة أو التمرد أو الثورة لكن الدارسين يتفقون على أن الانتفاضة هي تحرك شعب كامل أو شرائح واسعة منه ضد قرار سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي تتخذه السلطة الحاكمة أو ضد وضع ضاغط معين تطالب بتغييره . والانتفاضات الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي خير مثال . أما التمرد فعندما تقوم جماعة معينة سياسية أو اقتصادية أو عرقية أو مهنية أو دينية أو عسكرية أو غيرها بشكل من أشكال الحراك العنفي للمطالبة بحقوق معينة محددة . أما الثورة، لاسيما الشعبية منها والتي تختلف عن الانقلاب بأشكاله المختلفة، فعندما يقوم الشعب (على غموض هذه المفردة وسيولتها) أو ممثلون عنه (بتفويض أو من دونه) بالنزول إلى الشوارع للمطالبة بتغيير الوضع القائم، السياسي والاقتصادي، رأساً على عقب أي بإسقاط النظام وليس مجرد تحسينه أو تعديله أو إصلاحه .

ولا علاقة سببية بالضرورة بين الثورة الشعبية والديمقراطية فالأولى تبتغي إسقاط النظام القائم والانتقال إلى آخر . وهذا الآخر قد لا يكون ديمقراطياً بالضرورة، إذ إن الانتقال من نظام استبدادي إلى آخر أكثر استبداداً قد يحدث عن طريق الاقتراع الشعبي الديمقراطي . ولدينا في هذا المجال نموذجان صارخان على الأقل: هتلر وموسوليني وصلا إلى السلطة عن طريق صناديق الاقتراع .

والثورة الفرنسية التي يضربها الدارسون عموماً كمثال على الثورات التي أحدثت تغييراً جذرياً في مجرى التاريخ الانساني قاطبة انتهت عام 1789 بإطاحة الملك ونظامه قبل انتخاب جمعية وطنية تسيطر عليها طبقة النبلاء نفسها التي كانت تتمتع بالامتيازات خلال العهد الملكي . لقد كان الانتقال سياسياً وقتها ولم يحدث التحول الديمقراطي إلا بعد عقود طويلة عادت خلالها الدكتاتورية ونشأت الامبراطورية قبل أن تندلع ثورة مصغرة (كومونة باريس) عام ،1840 تلاها تفاعل لتطورات داخلية وخارجية على خلفية ثورة صناعية وفكر سياسي خلاق، لتفضي التطورات إلى نظام ديمقراطي في الحد الأدنى . حتى إن هوبير فدرين، وزير الخارجية الفرنسي الأسبق، يقول (في محاضرة له في بيروت نهاية الشهر المنصرم) إن التحول الديمقراطي في فرنسا تطلب قرناً ونصف القرن بعد الثورة الفرنسية إذ كان يجب انتظار عام 1945 كي تحدث أول انتخابات فرنسية ديمقراطية تشترك فيها المرأة التي كانت محرومة من هذا الحق قبل هذا التاريخ . وهناك من يقول إن الديمقراطية الفرنسية المعاصرة وصلت مع الجمهورية الخامسة وشارل ديغول، وما كان قبلها يصفه الأكاديميون بالنظام القديم الذي لم يكن ديمقراطياً بالمعنى العصري للكلمة وإن وجدت فيه إرهاصات مثل هذه الديمقراطية .

كما يمكن القول من دون مبالغة، إن معظم الثورات الكبرى في التاريخ أفضت إلى أنظمة أبعد ما تكون عن الديمقراطية، وهذه حال الثورات البولشفية والماوية والجزائرية والإيرانية على سبيل المثال لا الحصر .

وقد شكل انهيار جدار برلين عام 1989 ثورة حقيقية جذرية بكل المعايير في دول ما كان يسمى المعسكر الشرقي الاشتراكي . لقد تفككت أنظمة حديدية راسخة في أيام معدودة وانهارت كقصور من ورق . حدث الانتقال من نظام سياسي-اقتصادي قائم على الحزب الواحد والاقتصاد الموجه إلى نظام تعددي واقتصاد حر من دون اجتياز مرحلة انتقالية . وجرت انتخابات حرة لكنها أعادت في بعض دول المعسكر البائد، مثل رومانيا وبلغاريا، بعض رموز الحزب الشيوعي السابق . لقد حدث الانتقال السياسي من دون أن يحدث التحول الديمقراطي المنشود . احتاجت هذه الدول إلى مساعدات ورعاية مباشرة من قبل الاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي والأمم المتحدة ومنظمات حكومية وغير حكومية كي يحدث فيها التحول الديمقراطي، وهو تحول لايزال متعثراً في العديد منها، لاسيما روسيا وأوكرانيا وجورجيا، ناهيك أن بيلاروسيا لاتزال تبدي ممانعة حياله .

في كل النماذج التاريخية نلاحظ أن الانتقال السياسي يحدث في فترة زمنية غير طويلة سواء كان ذلك نتيجة انقلاب عسكري أو ثورة شعبية أو قرار إرادي عن عاهل أو سلطة سياسية أو غيره . لكن التحول الديمقراطي يتطلب مساراً يسلك فترة زمنية قد تطول أو تقصر حسب الحالة والظروف المحيطة بها . فالتحول الديمقراطي يستلزم تغيراً في العادات والتقاليد السياسية والاقتصادية وأحياناً الاجتماعية، وهذا مسار تتمرس خلاله الأحزاب السياسية على ممارسة أدوارها ووظائفها وتنتشر فيه رويداً حرية التفكير والمعتقد والاجتماع والتعبير والقبول بالرأي الآخر ويصلب عود المجتمع المدني ويتعلم الشعب كيفية الرقابة على المؤسسات والسلطات . ومن قانون إلى قانون ومن إصلاح إلى إصلاح يتقدم المسار الديمقراطي متباطئاً طوراً ومتسارعاً حيناً على خلفية نقاش فكري ودينامية ثقافية . إنها مسيرة طويلة وليست قراراً يتخذ من أعلى في لحظة معينة . وللخارج دور مهم في إعاقة المسار الديمقراطي أو دفعه قدماً، كما للنخب المحلية الدور الأساسي على وجه التأكيد .

ما نشهده في بعض العالم العربي منذ بداية العام الجاري انتقال سياسي قد لا يفضي بالضرورة إلى تحول ديمقراطي في الغد القريب . فالأحزاب الجديدة التي تصل إلى السلطة ليست متمرسة على فنون الحكم والديمقراطية بل إنها تستعد للشروع في تجربة سيشوبها التعثر والتخبط والأخطاء . والانتخاب، مهما كان حراً ونزيهاً، يبقى شرطاً من شروط كثيرة لابد منها كي نصل إلى نظام ديمقراطي ولو في حده الأدنى . وهذه الشروط لايكفي أن تجتمع في نص دستوري مهما كان عصرياً متسامياً لكي تتحقق بمراسيم وقرارات تصدرها الحكومات الجديدة . الديمقراطية ممارسة وعقلية وتجربة وخطأ وسيرورة وعملية تفاعلية، لكن المهم أن نبدأ فمهما طال انتظار الغد يبقى لناظره قريباً .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"