بريطانيا وإرث بلفور

03:24 صباحا
قراءة 3 دقائق
تستعد المملكة المتحدة للاحتفال هذا العام بمئوية وعد بلفور الذي منح اليهود حق إقامة وطن لهم على أرض فلسطين. هذا الوعد غير المقدس هو جزء من تاريخ الامبراطورية التي كانت في أوج عهدها الاستعماري في تلك الحقبة. والاحتفال المزمع سوف يشكل تحدياً للمشاعر العربية والفلسطينية كونه يعيد التذكير بمأساة شعب فلسطين وقيام دولة الكيان الصهيوني الذي تحول إلى ترسانة أسلحة تهدد دول المنطقة وشعوبها وتستخدم من أجل استكمال حملة الإبادة المعنوية لشعب فلسطين.
في وقت سابق من هذا العام طالب مسؤولون من السلطة الفلسطينية من بريطانيا الاعتذار عن هذه الواقعة التي فتحت الباب على الكوارث، لكن لندن لم يبدر عنها أي رد فعل تجاه هذه الدعوة. والراجح أن الاحتفال سوف يتم كون أن المسألة ذات طابع تاريخي وجزء من الإرث البريطاني، وإن كان ليس معلوماً على أي مستوى. وأن يتم الاحتفال حتى لو في إطار ضيق فذلك يعني تكريس الخطيئة السياسية وتجديد «الشرعية» للكيان الصهيوني الذي قام على أرض شعب آخر مع إهمال النتائج المريعة التي ترتبت على هذه الواقعة. والقفز عن المغزى السياسي للأمر كون بريطانيا تتحمل مسؤولية تاريخية ملموسة عن الكارثة الفلسطينية، علما أن بريطانيا كانت آنذاك قائمة على الانتداب في فلسطين،كما كان عليه الحال في دول أخرى منها الأردن والعراق ودول الخليج العربية.
ومن المنتظر أن تعمد الدبلوماسية البريطانية للقول في هذه المناسبة إن الظروف قد تغيرت خلال قرن مضى، وإن الكيان حظي باعتراف عشرات الدول كما نال عضوية الأمم المتحدة والمنظمات المنبثقة عنها، وإن بريطانيا في عام 2017 تؤيد التسوية السياسية في الشرق الأوسط كما تدعم مطلب إقامة دولة فلسطينية. علماً أن الانتداب البريطاني طوال أكثر من ثلاثة عقود وحتى العام 1948 عمل على تمكين العصابات الصهيونية من السيطرة التدريجية على أرض فلسطين وقمع الحركة الوطنية فيها استنادا إلى تحالف وثيق بريطاني - صهيوني، واستناداً أيضاً إلى وعد بلفور الذي طالما وصف عن حق بأنه وعد من لا يملك لمن لا يستحق. وعليه فإن هذا الوعد من وزير المستعمرات شكّل المدخل الأساسي والفعلي للاستيلاء التدريجي على أرض فلسطين وتشريد شعبها.ولا يمكن النظر إلى هذه الكارثة في سياقها السياسي والفعلي بمعزل عن وعد بلفور الذي يعتبر ذروة الشرور الاستعمارية، فبريطانيا كانت عازمة على عدم مبارحة أرض فلسطين إلا بعد حرمان شعب هذه الأرض من حقوقه الأساسية في وطنه. وبحيث يخرج الاستعمار العسكري لكي يحل معه احتلال عسكري واستيطاني ذو طبيعة استئصالية.
وعليه فإن هذه المناسبة المفصلية تمثل فرصة لفتح الملف الأسود الثقيل الذي تورطت به بريطانيا، ولم تسع إلى تصحيحه أو الاعتذار عنه طوال قرن مضى. والحديث عن تأييد قيام دولة فلسطينية لا يعدو أن يكون حبراً على ورق. فبريطانيا مثلها مثل الولايات المتحدة لا تفعل شيئاً لترجمة هذا المبدأ السياسي على أرض الواقع. وهو ما يفسر التعنت الصهيوني بل ازدياد الشراهة الصهيونية على ابتلاع كل أرض فلسطين. وما زال الاحتلال يتلقى الهدايا والمكافآت على احتلاله عبر العلاقات الوثيقة في سائر المجالات التي تربطه ببريطانيا وبدول أخرى.
إن تأييد إقامة دولة فلسطينية، لا يضاهي بأي وجه من الوجوه جريمة الانتداب وجريمة وعد بلفور. وذلك كون هذا التأييد لا يحمل سوى صبغة دبلوماسية وبدرجة أقل صفة سياسية، ولا يقترن بأي خطوات ملموسة لتمكين هذه الدولة من النشوء على جزء من أرض فلسطين (28 بالمئة من فلسطين التاريخية). ونقطة البداية الصحيحة هي الاعتراف بحجم الكارثة التي حلت بشعب فلسطين وبالأعباء التي تحملتها دول الجوار التي وجدت نفسها في سباق على التسلح لكبح العدوانية الصهيونية، وليس أدل على ذلك من قيام العدوان الثلاثي على مصر بمشاركة لندن وتل ابيب وفرنسا في العام 1956 الأمر الذي شكل إضافة إلى واقعة العدوان، إيذاناً بسباق التسليح وتكبيد دول المنطقة أعباء كبيرة. ومن واجب الجانب الفلسطيني عدم الركون إلى مطالب دبلوماسية شكلية مثل إطلاق وعد جونسون (على اسم وزير الخارجية البريطانية الحالي) الحؤول دون إعفاء بريطانيا من مسؤوليتها التاريخية التي توجب الاعتراف بما جرى والاعتذار عن الخطيئة وهو ما يقوّي الوضع المعنوي والسياسي للجانب الفلسطيني ويفتح أذهان العالم مجدداً على بداية الصراع وجذوره، وحيث تملك بريطانيا حصة الأسد من الإرث الاستعماري البغيض، ومن تداعياته المتوالية فصولاً حتى أيام الناس هذه.


محمود الريماوي
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"