بعد سنوات الوصاية

05:45 صباحا
قراءة 3 دقائق

طيلة سنوات الوصاية السورية على لبنان كان السياسيون اللبنانيون يتسابقون على تكرار مقولة تلازم المسارين التي أضحت معزوفة ممجوجة تلازم خطاباتهم وإعلاناتهم وتصريحاتهم . وكانت تعني أن ليس بمستطاع لبنان الذهاب بمفرده، أي من دون سوريا، إلى مفاوضات سلام مع إسرائيل في أي ظرف من الظروف وحتى لو كان الغرض مجرد الاتفاق على آلية لحلول الجيش النظامي اللبناني مكان قوات إسرائيلية تنسحب من أراض لبنانية محتلة . فسوريا العاجزة عن تحرير الجولان بالقوة المسلحة تخشى أن تجد نفسها وحيدة ومن دون ورقة ضغط فاعلة في حال خروج لبنان من الصراع . هذا البلد الضعيف تمكن، عن طريق المقاومة المسلحة، من فرض معادلة في صراعه مع إسرائيل استفادت منها سوريا التي أسهمت في خلق هذه المعادلة عبر السماح بتمرير السلاح إلى المقاومة اللبنانية . منذ ثمانينيات القرن المنصرم استغلت دمشق هذه المقاومة ايما استغلال في سياساتها الإقليمية وغدت، في عهد الرئيس حافظ الأسد، قوة إقليمية يحسب لها الحساب .

مع خروج القوات السورية من لبنان في العام 2005 توقف العازفون عن لحن تلازم المسارين رغم أن التلازم بقي حقيقة كون النفوذ السوري في لبنان لم ينته بمجرد الانسحاب العسكري منه . فعن طريق حلفائها على الأقل بقيت سوريا قادرة على تسهيل وعرقلة تشكيل الحكومات اللبنانية وعلى دفعها للاستقالة إن وجدت أن بقاءها أضحى يهدد المصلحة السورية، وهذا ما حصل بالتحديد لحكومة سعد الحريري السابقة . واليوم وقد وصلت الامور في سوريا إلى ما وصلت اليه من فوضى مسلحة فإن العودة إلى الوراء، أي إلى ما كان عليه النفوذ السوري في لبنان في السابق، باتت أمراً يقترب من المستحيل . بل إن منطق الأشياء أمسى يسير في اتجاه تغير جوهري في طبيعة النظام السوري إن لم نقل تغيير النظام بالكامل . ولم تعد مقولة تلازم المسارين مطروحة أساساً فالوقت ليس للتفاوض مع إسرائيل لا من قبل لبنان ولا سوريا ناهيك عن الفلسطينيين المنسيين .

رغم ذلك فتلازم المسارين السوري واللبناني أضحى ضرورة أكثر من أي وقت مضى ولكن هذه المرة في اتجاه مختلف . كيف؟

لم تعد الأزمة السورية مجرد أزمة بين معارضة ونظام بل أضحت صراعاً دولياً على سوريا نفسها . ومهما طال الصراع المسلح فإنه لن ينته بالحسم العسكري على يد أحد الطرفين السوريين . وعلى الأرجح ألا يكون هناك تدخل عسكري خارجي يحسم الأمور على الطريقة الليبية، فروسيا ستكون جاهزة لمنع سقوط النظام عن طريق التدخل الخارجي .

وهكذا فإن الأمور، مهما طالت، تتجه نحو حل إقليمي - دولي كبديل عن حرب إقليمية وربما دولية لا مصلحة فيها لأحد . وحتى إن اندلعت مثل هذه الحرب، وهو أمر ليس بالمستحيل، فإنها لا بد أن تنتهي بحل سياسي إقليمي - دولي لسوريا الجديدة . وهنا لا بد من دخول لبنان على الخط، لأن أي حل لا يتناوله مع سوريا في الوقت نفسه سيتركه مكشوفاً على احتمالات خطيرة في غياب أية رعاية إقليمية له، لماذا؟

لأن الحل المقبل لسوريا سيشكل انتصاراً لطرف لبناني كبير على حساب طرف آخر . ولن يقبل الطرف المهزوم بطيبة خاطر الهزيمة والتسليم بالقدر .فاللعبة بين الطرفين اللبنانيين الكبيرين (14 و8 آذار) باتت صفرية بمعنى أن أي انتصار يسجله النظام السوري على معارضيه يعتبر انتصاراً لجماعة الثامن من آذار على خصومها اللبنانيين . وبالعكس فأي تقدم يحرزه الثوار السوريون تحتفل به جماعة الرابع عشر من آذار كنصر لها . لم يعد من حيز ولو ضيق لالتقاء الأطراف اللبنانية خارج طاولة حوار بين طرشان يلتقطون لاجتماعهم صورة تذكارية، وكل منهم يراهن على فوز حليفه في سوريا .

لقد سقط اتفاق الدوحة، الذي كان بمثابة مظلة إقليمية ودولية للبنان منذ العام ،2008 مع سقوط الحكومة الحريرية السابقة، وبات اللبنانيون أحوج من أي وقت مضى إلى اتفاق جديد في مستوى الطائف على الأقل هذه المرة، يعيد تظهير المشهد اللبناني تحت رعاية إقليمية جديدة تحرص على إنتاج نظام سياسي في مستوى تطلعات الثورات العربية .

نعم لتلازم المسارين السوري واللبناني، هذه المرة بمعنى إيجاد حل للأزمتين السورية واللبنانية معاً في اتفاق إقليمي واحد يستولد ديمقراطيتين متجاورتين شقيقتين لا وصاية لواحدة منهما على الأخرى .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"