بوتين واللعب بالورقة الصينية

03:03 صباحا
قراءة 4 دقائق
عاصم عبد الخالق
فوق صورة ضخمة للرئيسين الروسي فلاديمير بوتين، والصيني شي جينبينغ، خلال زيارة الأخير الى موسكو قبل أسبوع، وضعت مجلة «كريستيان ساينس مونيتور» الأمريكية عنواناً عريضاً في صيغة تساؤل هو «هل يمكن أن يلعب بوتين بالورقة الصينية؟». وتحت العنوان والصورة نشرت تقريراً عن فرص التقارب الروسي الصيني، وآفاقها، بمناسبة مشاركة شي في الاحتفال الذي أقامته موسكو إحياء لذكرى الانتصار في الحرب العالمية الثانية. والتساؤل هنا منطقيّ على ضوء حقائق وتطورات عدة، أبرزها الحصار الغربي لروسيا الذي كان من تجلياته مقاطعة كل الزعماء الغربيين لهذا الاحتفال.
تبدو مظاهر التقارب الروسي الصيني وآياته واضحة وكثيرة. كما أن أسبابه هي الأخرى واضحة وكثيرة. ولعل التوقيع على 32 اتفاقية تعاون بين البلدين، خلال زيارة الرئيس الصيني، هي واحدة من مظاهر هذا التقارب. في الإطار نفسه، جاءت المناورات البحرية بينهما في البحر المتوسط، لتظهر الى أي حد وصل حجم التعاون بين البلدين. مظاهر التقارب أيضاً يجسدها حجم التبادل التجاري الذي يتجاوز 95 مليار دولار، وفقاً لأرقام العام الماضي، ومن المتوقع أن تزيد المبادلات الى 100 مليار بنهاية العام الجاري. 
أما أسباب التقارب ودوافعه فتبدو كثيرة وطبيعية أيضاً، وهي نابعة من مصالح البلدين. بالنسبة لروسيا هي ترى في الصين بديلاً مناسباً لتعويض الشركاء الغربيين الذين خسرتهم بسبب العقوبات المفروضة عليها، نتيجة للأزمة الأوكرانية وتداعياتها. ويمثل التوجّه الروسي شرقاً نحو الصين بصفة خاصة، وباقي البلدان الأسيوية عامة، تحولاً متوقعاً ومنطقياً، في ظل الظروف التي تمرّ بها البلاد، وهو خيار استراتيجي لا غنى عنه.
الصين بدورها ليس لديها ما يدعوها لصدّ الاقبال الروسي عليها، والارتماء في أحضانها، وإن كانت ستتجنّب التفاعل معه بحرارة مبالغ فيها. الصينيون يدركون بلا شك عمق المأزق الذي تواجهه روسيا، وحجم الضغوط الواقعة عليها، وهو من وجهة نظر بكين أمر لا بأس به مادامت قادرة على استثمار هذا الوضع لتحقيق مكاسب اقتصادية.الاهتمام الصيني هنا ينصبّ بصورة أساسية على محورين، أولهما الحفاظ على إمدادات الطاقة الروسية، وهي الركيزة الأساسية للعلاقات بين البلدين من وجهة نظر بكين. يُشار في هذا الصدد الى التقرير الذي كانت شركة النفط البريطانية الكبري «بي بي» قد أصدرته أخيراً، وتوقعت فيه أن تصبح روسيا أكبر المصدرين العالميين للطاقة، بحلول 2035، وأن تصبح الصين أكبر مستورد عالمي للنفط في التاريخ نفسه.
المحور الثاني الذي تركز عليه الصين في علاقتها المتنامية مع روسيا، هو ضمان تجنّب أي عراقيل يمكن أن تضعها موسكو مستقبلاً في وجه الخطط الصينية الطموحة، لتوسيع تعاونها الاقتصادي مع جمهوريات وسط آسيا، أي الاعضاء السابقون في الاتحاد السوفييتي المنهار، والتي تشكل بدورها مناطق نفوذ سياسي واقتصاد تقليدية لروسيا، وسوقاً مضمونة لتصريف منتجاتها. تريد بكين مباركة موسكو لمشروعها العملاق «حزام واحد.. طريق واحد» المعروف بطريق الحرير، وهو مشروع يستهدف إقامة شبكة طرق عملاقة تربط هذا المناطق بأوروبا في نهاية المطاف، وتقام حولها مشاريع تنموية واستثمارية هائلة. هذا التطور سيقلق بلا شك الشركات الروسية العاملة هناك، ولهذا فإن إقامة علاقات سياسية دافئة مع موسكو يزيل الكثير من المشكلات، ويصب في مصلحة استمرار الخطة الصينية. وربما يعتقد حكماء الصين أن حالة الضعف التي تمرّ بها روسيا حالياً هي الأنسب لانتزاع ما يريدون من موافقات أو حتى تنازلات.
غير أن كل ذلك لا يعني بالضرورة أنه سيكون هناك تحالف إستراتيجي بين البلدين، لأن للصين حساباتها أيضاً، ولن تنسى مصالحها الضخمة مع الغرب، وهي ليست من البلاهة لكي تكسب روسيا وتخسر الغرب. والأرجح أن لديها من الحكمة
والدهاء والبراغماتية ما يمكنها من الحصول على ما تريد من الجانبين.
وقد قدمت الأزمة الأوكرانية نموذجاً واضحاً للمهارة الصينية في هذا الشأن، حيث تجنّبت بكين الدخول طرفاً منذ البداية في الأزمة، ورفضت المشاركة في العقوبات على موسكو، حتى لا تغضب جارتها الروسية. ولكنها في الوقت نفسه تجنّبت إبداء أي تعاطف أو تأييد لقرار بوتين، بضمّ شبه جزيرة القرم، حتى لا تفجر أزمة مع الولايات المتحدة وأوروبا بلا داع. والأرجح أن الصين ستلتزم بهذا التوازن الدقيق في إدارة علاقاتها الخارجية، وستتعايش مع الخلافات بين الشرق الغرب، من دون أن تكون طرفاً فيها. 
إذن كما قالت «كريستيان ساينس مونيتور» سيسعى بوتين إلى اللعب بالورقة الصينية، ولكن هذا لا يعنى بأي حال من الأحوال أن الصين ستكون طوع أمره، لأن حكماءها أذكى من أن يتلاعب بهم أحد، أو أن يتمّ الزجّ بهم في معركة لا يدخلونها بإرادتهم الحرّة. ولن يكون أمام بوتين سوى القبول بالقدر الذي ستسمح به الصين من حجم التقارب والتعاون ومستواهما. 
هذه الحقيقة أدركها مبكراً الباحث الروسي سيرغي لوكونين الخبير في الشؤون الصينية، في معهد الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية في موسكو، عندما كتب يقول إن ما يريده بوتين في الواقع، هو دعم الصين لمعركته مع الغرب حيال أوكرانيا، ولكن هذا أمل بعيد المنال. ويتحسّر الكاتب على الماضي الذهبي لبلاده، بقوله: عندما كانت الصين متخلفة، كنا نستطيع أن نملى عليها ما نشاء، أما الآن فلا يمكننا القيام بذلك، لأنه ببساطة أصبح لدى الصين المال، بينما لا تمتلكه روسيا.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"