تحديات واشنطن في العراق

03:44 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. محمد السعيد إدريس

من تابع بداية تفجر الأزمة الراهنة بين الولايات المتحدة وإيران التي بلغت ذروتها بالاغتيال الأمريكي لقائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني، ومعه أبو مهدي المهندس نائب قائد «الحشد الشعبي» العراقي، فجر الجمعة الفائت، على مقربة من مطار بغداد، ومن ثم الرد الإيراني الذي استهدف قاعدتين أمريكيتين في العراق، كان في مقدوره أن يخرج باستنتاج مهم هو أن الولايات المتحدة كانت حريصة على تأكيد أمرين، خصوصاً بعد ردها العسكري العنيف على الهجمات التي شنتها «كتائب حزب الله» العراقية، مساء الجمعة (27/12/2019) على إحدى القواعد العسكرية الأمريكية قرب كركوك.

الأول، هو محاولة احتواء ردود الفعل العراقية الرسمية والشعبية على ذلك الرد الأمريكي الذي قامت به طائرات أمريكية على مواقع لتلك الكتائب، وأدى إلى مقتل أكثر من 30، وجرح ما يزيد على الخمسين. وحرص الأمريكيون على تأكيد أن المواجهة مع إيران وليست مع العراق، وأن «كتائب حزب الله» تعمل بأوامر إيرانية.

الأمر الثاني، هو الحيلولة دون تحول دفة الأحداث من مطالب جماهيرية ضد إيران والطبقة السياسية، وأجبرت حكومة عادل عبد المهدي على الاستقالة، وهي الأحداث التي كانت واشنطن تأمل أن تؤدى في النهاية إلى إخراج إيران من العراق، إلى مطالب بإخراج الأمريكيين من العراق بعد سقوط كل هذا العدد الكبير من الضحايا.

هذا الحرص الأمريكي تداعى كلية، وأفلتت الأمور من أيدى الأمريكيين بعد عملية «الاغتيال المزدوج» لكل من سليماني والمهندس. وكان الأمريكيون يعتقدون أنهم باغتيالهم سليماني فإنهم سيقتلون ما يعتبرونه «رأس الفتنة» بين الولايات المتحدة وإيران، وأنهم حتماً سيجدون قطاعاً عراقياً كبيراً يؤيدهم هذا الموقف، لكن لسوء حظ الأمريكيين أن عملية الاغتيال لم تقتصر على شخص سليماني، بل أخذت معه المهندس الرمز الذي له اعتباره الكبير في الحرب على تنظيم «داعش»، والانتصار عليه.

هنا بالتحديد، تبرز معالم المأزق الأمريكي الذي لم تخطط له، ولم تأمله الإدارة الأمريكية وجنرالاتها، فاغتيال المهندس جعل المواجهة عراقية- أمريكية وليست إيرانية - أمريكية فقط، ليس هذا فقط، بل جعلها، من وجهة نظر أغلب العراقيين، وحتى المعتدلين منهم الذين حرصوا لسنوات على دعم خيار «النأي بالعراق» عن الصراع الأمريكي- الإيراني، اعتداء على السيادة والكرامة الوطنية العراقية واستهانة بالعراق وشعبه تستوجب الرد والانتقام والثأر من الأمريكيين.

والمعلومات التي جرى تسريبها عبر مصادر إعلامية غربية تؤكد أن الولايات المتحدة لم تفكر، ولم تستهدف اغتيال المهندس، بل كان المقصود هو الجنرال سليماني عند وصوله إلى مطار بغداد قادماً من سوريا، ولكن شاء سوء الطالع الأمريكي أن يكون المهندس برفقة سليماني. صدفة جعلت المهندس ضحية ثانية للاغتيال الأمريكي، وهي الصدفة أيضاً التي فرضت على الولايات المتحدة أن تجد نفسها في موقف العداوة من الشعب والسلطات العراقية، وأن تواجه بما لم تفكر فيه، وهو أن تدفع ثمن عملية الاغتيال سريعاً عبر قرار من مجلس النواب العراقي يقضي بإخراج كل القوات الأجنبية من العراق، وبالأساس القوات الأمريكية، ولعل هذا ما يؤكد صدق المعلومات «الإسرائيلية» التي كشفت أن الولايات المتحدة بذلت جهوداً مضنية لمنع انعقاد جلسة مجلس النواب العراقي.

وحاولت واشنطن منع صدور القرار الذي أوصى به عادل عبد المهدي رئيس حكومة تسيير الأعمال، من خلال إقناع كتل نيابية من حضور تلك الجلسة.

هذا القرار وضع الولايات المتحدة والعراق في مفترق الطرق، وصعّد من الأزمة الأمريكية- الإيرانية، وضاعف من مخاطرها. فإخراج القوات الأمريكية من المنطقة، وليس من العراق فقط، بات هدفاً ومطلباً لإيران، وكل حلفائها، وإذا قبلت الإدارة الأمريكية بذلك فإنها سوف تخسر الكثير، وستدفع ثمناً فادحاً لاغتيال سليماني والمهندس، وستضاعف من أزمة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الانتخابية، وإذا رفضت فإنها ستجعل من قواتها بمثابة «قوات احتلال» حسب توصيف قيادات عراقية عدة، ومن ثم ستكون هدفاً «للحشد الشعبي» العراقي ضمن عملية مقاومة مشروعة للاحتلال الأمريكي، حسب ذلك التوصيف.

الاختيارات الأمريكية صعبة، لكن واشنطن لديها مخارج مهمة لعرقلة المواجهة ضدها في العراق من خلال العمل على إحداث استقطاب وصراع داخلي عراقي على قرار إخراج الأمريكيين من العراق، وتحويل أزمة الفرار من أزمة عراقية - أمريكية إلى أزمة عراقية- عراقية، وإعادة إحياء مخطط التقسيم عبر دعم خيار الأكراد في الانفصال، وبذلك يكون الخيار بين اثنين، إما التراجع عن قرار إخراج الأمريكيين من العراق، وإما القبول القسري بقرار تقسيم العراق. وهناك من يحاول أن يلفت الأنظار إلى أن إعادة دفع تنظيم «داعش» للعبث بالأمن والاستقرار العراقي يمكن أن تكون ورقة أمريكية أخرى لعرقلة قرار الخروج من العراق.

الأزمة تبدو مزدوجة للعراقيين، كما هي للأمريكيين، لكن حسابات المواجهة بين طهران وواشنطن ستبقى عاملاً محورياً في حسم التنازع بين بغداد وواشنطن.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"