تحولات مراكز الثقل في العالم

02:42 صباحا
قراءة 4 دقائق
الحسين الزاوي
تشهد مراكز الثقل العالمي تحولات غير مسبوقة منذ عقود من الزمن، نتيجة للتغيرات الكبرى الحاصلة على مستوى مصادر القوة الرئيسية في العالم، بعد تراجع قدرة الغرب على فرض هيمنته التقليدية بشكل ملحوظ، نتيجة فقدانه الجزء الأكبر من إمكاناته ومقدراته على مستوى الإنتاج الصناعي والتكنولوجي، وتحوّله من منتج إلى مستهلك للعديد من السلع الاستراتيجية.
وقد دفعت هذه التطورات الكبرى الولايات المتحدة إلى تقليص وجودها في العديد من مناطق العالم، من أجل دعم نفوذها في منطقة شرق آسيا، التي أصبحت تشكل مركز الثقل الرئيسي في العالم؛ بخاصة أن واشنطن باتت تعلم جيداً أن الهيمنة على العالم تعني الآن السيطرة بالدرجة الأولى على الجزء الآسيوي من المنطقة الشاسعة التي يسميها خبراء الاستراتيجية الأمريكية، من كيسنجر إلى بريجنسكي، أوراسيا.
ويمثل هذا الانتقال الكبير لمركز الثقل الجيوسياسي تحدياً كبيراً بالنسبة لصنّاع القرار في العواصم الغربية، حيث تشير تقارير منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، إلى التأثير السلبي الذي بات يمثله هذا الانتقال المتعلق بالجغرافيا السياسية العالمية نحو آسيا، على مجموع الدول الغربية، وفي مقدمتها دول القارة الأوروبية. ويتوجب التنويه في هذا المقام إلى أن هذه المنظمة التي يقع مقرها الرئيسي في باريس، والتي تضم أكثر من 35 دولة، كانت قد حلت محل المنظمة الأوروبية للتعاون الاقتصادي، التي أخذت على عاتقها في مراحل سابقة القيام بالتنسيق ما بين أعضائها، في كل ما يتعلق بتطبيق التوجهات الاقتصادية الكبرى الخاصة بمشروع مارشال، الذي جرى اعتماده بعد نهاية الحرب الكونية الثانية، الأمر الذي يعطي أهمية خاصة للتقارير التي تصدرها هذه المنظمة بالنسبة للتحولات الجارية في العالم على مستوى التنمية الاقتصادية والتكنولوجية، وتأثيرات كل ذلك في مستوى التوازنات الدولية.
ونستطيع القول في سياق متصل، إن تقرير منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية الصادر سنة 2013 الموسوم: آفاق 2060، توقعات التنمية الاقتصادية الشاملة على المدى البعيد؛ يشير بشكل واضح إلى أن القوى الصاعدة ممثلة في الصين والهند، ستتجاوز القوى الغربية بما فيها الولايات المتحدة على المستوى الاقتصادي، وفق سيناريو من شأنه أن يؤدي إلى حدوث انقلابات جيوسياسية حاسمة على المستويات؛ السياسية، والأمنية، والاجتماعية، والثقافية في العالم برمته. ويمكن أن نلاحظ أنه ومنذ سنة 2012، أصبح الناتج الداخلي الخام للصين يتجاوز معدل ما تم تحقيقه في 17 دولة أوروبية مجتمعة، ونجحت الصين في الآن نفسه، في تجاوز الولايات المتحدة على مستوى الكثير من المؤشرات الاقتصادية الأساسية خلال سنة 2014. ويؤكد معظم الخبراء أنه بإمكان الصين أن تحقق مستقبلاً معدلات تنمية أكثر تأثيراً على المستوى العالمي، في حال نجاحها في تحقيق الوحدة الاقتصادية والسياسية مع تايوان المدعومة سياسياً وعسكرياً من طرف واشنطن، وذلك استناداً إلى اعتبارات جيوسياسية وجيواستراتيجية واضحة ومؤثرة على مستوى مستقبل الصراع والتنافس الدوليين من أجل الهيمنة على العالم.
وعليه فإن الصين باتت تسعى في المرحلة الراهنة إلى تنويع مصادر قوتها الاقتصادية، من خلال التركيز على عناصر جديدة تتعلق بتكنولوجيات الاتصال والفضاء، وذلك بشكل متزامن مع تطوير قوتها العسكرية من خلال إنفاق أكثر من 100 مليار دولار في السنة، من أجل تطوير قدرات الجيش الصيني في المجالات البرية والبحرية والجوية. والشيء نفسه يمكن أن يقال عن الهند التي تملك قدرات هائلة إضافية مقارنة بالصين، بخاصة في المجال الزراعي، وذلك بالموازاة مع الجهود الجبارة التي مازالت تبذلها نيودلهي على المستوى الصناعي، من أجل دعم القدرات الكبيرة التي تمتلكها على مستوى صناعة البرمجيات والهندسة الإلكترونية. لكن هذا التطور الهائل الذي تعرفه هذه الدول الآسيوية الكبيرة، بات يواجه تحديات كبرى على مستوى التناقضات الداخلية والصراعات التاريخية والثقافية والعرقية في هذا المحيط الجيوسياسي والقاري البالغ التعقيد.
ومن الواضح أن الدول الغربية الكبرى، وفي مقدمها الولايات المتحدة، مازالت تراهن على استثمار وتوظيف هذه التناقضات الداخلية والصراعات الإقليمية التي تواجهها الدول الآسيوية من أجل كسر مسار التنمية الجارف، الذي بات يبشر باقتراب أفول قوة الغرب، حيث تسعى واشنطن ومعها الدول الغربية الكبرى، إلى التأثير في المستقبل السياسي لهذه المنطقة الحيوية، من خلال تأجيج الصراعات الإقليمية ما بين الصين والهند، كما تعمل على إحياء المخاوف التاريخية لدى الدول المجاورة لبكين، بالنسبة للمخاطر المتعلقة بالهيمنة الصينية على المنطقة.
ويمكننا أن نخلص في الأخير، إلى أن انتقال مركز الثقل العالمي من الغرب إلى الشرق، لا يعني بالضرورة الزوال النهائي لمركز أو مراكز الثقل التقليدية في العالم، فمعادلة الصراع الدولية ستظل متأرجحة بشكل متواصل نتيجة للتحولات الكبرى الجارية الآن على مستوى التوازنات الجيوسياسية في العالم. لكن الشيء المحوري الذي بات يمثل أحد الثوابت الأساسية بالنسبة للسياسة العالمية، فيتمثل في بروز حالة الانهيار المتواصل لوضعية الهيمنة والاحتكار التي كان يمارسها الغرب، وفقاً لمقولة برتراند بادي التي يتحدث من خلالها على لسان الغرب قائلاً:«لم نعد وحدنا في هذا العالم»، ليعلن بذلك النهاية الوشيكة لمقولات المركز والهامش.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"