تقدم يعتريه قصور وتقصير

03:16 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود الريماوي


هذه الأزمة الخطِرة تثبت أن مكونات العائلة البشرية لا يمكن لها أن تنعزل عن بقية المكوّنات.

أظهر انتشار جائحة «كورونا» على امتداد الكرة الأرضية، أن دولاً عديدة في عالمنا بما فيها دول متقدمة تتحدث في أدبياتها عن حقوق الإنسان وعن السلم الأمن الدوليين، لكنها لم تفعل الكثير، أو ما يتعين فعله لحماية الحياة البشرية من مخاطر جسيمة كالتي تمثلها الأوبئة. وبينما يجري التسابق على التسلح وعلوم التطوير العسكرية، وترصد لها الميزانيات الطائلة، بهدف الوصول إلى غايات المنعة والردع، فإن هذه الغايات نفسها بدت قابلة للاختراق بغير تهديدات عسكرية، بل بفعل القصور في أبحاث الأوبئة وإنتاج لقاحاتها، وما يتطلبه ذلك من تمويل وتجهيزات علمية وتقنية مناسبة، وتوفير المستلزمات الطبية، لدرجة تبين معها أن دولةً أوروبية متقدمة يتوفر لديها 5000 سرير للعناية المركزة، وبما قد يلبي حاجة مدينة كبيرة واحدة فقط في حال تفشي الوباء بدرجة خطِرة.

وذلك يعكس خللاً في الأولويات، وضعفاً في وضع الاحتياطات اللازمة والأساسية لمواجهة المخاطر الصحية، رغم ما تفاخر به دول متقدمة من إنجازات في العلوم بما فيها العلوم الطبية، وهي مفاخرة لها ما يسندها حقاً على أرض الواقع، غير أن نقصاً كبيراً يعتريها كما أثبت تحدي الفيروس الجديد.

أما الأسوأ من ذلك فهو ضعف التعاون الدولي لمواجهة هذه الجائحة، في وقت لا يمثل هذا التعاون المطلوب طموحاً أو مكرمة من أحد؛ إذ إن القوانين السارية تلزم بالعمل الجماعي وفق مقتضيات هذا التعاون، وهو ما بدا جلياً بين دول المجموعة الأوروبية، وحيث باتت القارة العجوز بؤرة رئيسية لهذا المرض؛ إذ لم يحقق الاتحاد الأوروبي في مؤسساته وهيئاته ذات العلاقة، نجاحاً كبيراً في التعاون الجماعي لاحتواء هذا المرض الخطير، واكتفت دول المجموعة بالعمل بصورة منفردة، وبعضها أوقف تصدير المعدات والمستلزمات الطبية.

ولم تنجح العولمة خلال هذه الأزمة العاصفة في إثبات القدرة على تعميم المنافع وسهولة الوصول إليها، رغم أن خدمات الشحن الجوي لم تتوقف.

إذ لم تنشأ شبكة منظمة من التوريدات الحيوية بسرعة كافية، كما لم تظهر الأزمة تعاوناً من أطراف متعددة لأبحاث الأوبئة وإنتاج لقاحاتها إلا في حدود ثنائية ضيقة، رغم ما تشهده صناعة الأدوية من تقدم هائل ومن وجود مراكز أبحاث، وشركات متخصصة متعددة الجنسيات في المجالات الطبية، بما في ذلك بناء مراكز طبية وإقامة مستشفيات، علاوة على كليات العلوم والطب في الجامعات.

هذا رغم أن عالمنا يشهد ظهوراً متواتراً للأوبئة خلال حقب لا تزيد على عقد زمني واحد، وحيث تتطور الفيروسات وتصبح أكثر خطورة في كل مرة. وبما يجعل الأوبئة مصدراً رئيسياً للقلق، إلى جانب الأمراض المزمنة والمستعصية.

وتستدعي الصراحة القول إنه قد ثبت أن الاعتقاد السائد في مجتمعات الغرب بحصانة المجتمعات المتقدمة من مخاطر الأوبئة، وأن هذه المخاطر باتت جزءاً من الماضي الذي لا يعود، هو مجرد وهم أو مبالغة شديدة في أحسن الأحوال؛ إذ إن هذه المجتمعات سبقت الدول الفقيرة والضعيفة في استقبال الوباء، وبحصانة ليست منيعة لدى أفرادها، ما يثير التساؤل حول فاعلية التقديرات الطبية المترافقة مع التطور المعرفي والعلمي والوعي العام والرفاه الاقتصادي، وذلك في ظل نشر طمأنينة وردية حول حصانة متراكمة ومحسومة ضد الأوبئة.

هكذا تظهر صور الاختلال في عالمنا، كما كشفتها هذه الجائحة. وهذا الظرف يتطلب التنبيه إلى أوجه النقص والقصور، وهو ليس بطبيعة الحال ظرفاً لتسييس الوضع الخطِر، ولا المبارزة حول أوجه التقدم وفحواه ومردوده على حياة البشر وأمنهم الصحي أو التشفي بمأساة ضحايا هذا المرض؛ إذ على العكس من ذلك فإن هذه الأزمة الخطِرة تثبت أن مكونات العائلة البشرية لا يمكن لها أن تنعزل عن بقية المكونات، وأن عنصري الشر والخير على السواء يمكن أن يعمّ كل منهما عالمنا، إذا لم يوضع العلم وكشوفاته والصناعات المتطورة ومراكز الأبحاث المتقدمة في خدمة الأمن الصحي الجماعي، والتعاون الدولي الفعال في مجال الوقاية والاستشفاء.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"