تِريم.. في الذاكرة

01:02 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. يوسف الحسن

}} الذكرى في اللسان العربي، هي نقيض النسيان، والذاكرة هي قدرة الإنسان، على الاحتفاظ بالتجارب والوجوه، والأماكن واستعادتها.

وأُدرك أن في حديث الذاكرة شيئاً كثيراً من «الذاتية»، خاصة عندما تتداعى إلى الخاطر، وجوه عرفتها وتفاعلت معها، وقامت بيننا مودات وصداقات ومناقشات.
وجوه سكنت أفئدتنا منذ سنوات، ورجعت أنفسها المطمئنة إلى ربها راضية مرضية في دار البقاء.

}} وجوه كثيرة من الذاكرة، تتداعى إلى خاطري، ونهر الزمن يتابع جريانه، والإنسان في هذه الحياة، مدعو إلى عمران الأرض والمشي في مناكبها، في نطاق الاجتماع الإنساني.
}} وكثيراً ما شعرت أن الذكرى حينما تستحضر، فإنها تبعث في النفس الصفاء.

}} ومن هذه الوجوه التي تستدعيها الذاكرة المرحوم تريم عمران، والذي امتدت صحبتي له نحو أربعة عقود ونصف، عرفته طالباً ومديراً لأول دائرة للشؤون الاجتماعية والعمل بالشارقة، وصحفياً وسفيراً ورئيساً للمجلس الوطني الاتحادي، ثم متفرغاً للعمل الصحفي والإعلامي حتى رحيله إلى دار البقاء.

}} حظيت خلال هذه الفترة الطويلة برفقته، وبصلات مودة بين أسرتينا وأولادنا، وبخاصة رفيقة دربه أم نجلاء.
}} واكتشفت فيه، منذ أن كان رئيساً «لرابطة طلبة عُمان» في القاهرة، شهامة وشجاعة في الموقف، وحضوراً جذاباً، ووعياً عميقاً بقضايا الخليج العربي وأمته العربية، وحرصاً على التواصل مع الطلبة العرب، وبخاصة مع طلبة الكويت والبحرين وسلطنة عمان وإمارات الساحل.
}} وتميز صاحبي، بعقلية رحبة على صعيدي الفكر والعمل السياسي، والإحاطة بالتراث، والحرص على «عروبة الخليج»، والتي كانت مهددة قبل قيام اتحاد الإمارات.

}} وقد استحوذ على اهتمامه في المرحلة الجامعية، موضوع توحيد إمارات المنطقة، وما يتصل بهذا الموضوع، من قضايا الاستقلال، والهوية والعروبة والإسلام، وقد نهل من عطاءات الشموخ المصري في الفن والأدب والسياسة ونبض المجتمع الحي، الكثير من هذه الإبداعات والإلهام. ومن خلال رفقته استزدت معرفة بواقع المنطقة وطموحاتها وشجونها، وجمعتنا أنشطة طلابية ثقافية وسياسية، مع قادة نوادٍ وروابط طلابية عربية، من الكويت (فيصل المسعود وخالد الوسمي وكوثر الجوعان وفيصل الحجي)، ومن البحرين (عبدالله الباكر)، ومن سلطنة عمان (محمود مكي وعلي موسى)، ومن قطر (محمد سالم الكواري)، ومن المغرب (إبراهيم بن بركة)، ومن الجزائر (محمد عيسى)، ومن العراق (قصي رحماني)، ومن فلسطين (تيسير قبعة وسعيد كمال وغازي فخري ومحمد صبيح)، ومن سوريا (أمين جدعان).. إلخ.

}} وكان سلطان بن محمد القاسمي، هو مظلة الحكمة والشعر والوطنية التي تجمعنا وأصدقاء كثراً من أمثال علي ومحسن النومان ومحمد الشامسي وسعيد غباش وناصر العبودي وأحمد الكمدة وعبد الله عمران وعبيد القصير وغيرهم.

}} وتتداعى إلى الخاطر، تلك الذكريات المقترنة بتأسيس مجلة «الشروق» وجريدة «الخليج» في عام 1970، وأسفارنا الشهرية إلى الكويت، وعودتنا حاملين معنا نحو ألف نسخة من المجلة، لتوزيعها في الإمارات، كما يتداعى إلى الخاطر ذلك القرار التاريخي الذي اتخذته وتريم، وبتأييد من عبد الله عمران، بالتوقف عن إصدار «الشروق» الشهرية، والاكتفاء بإصدار جريدة يومية، لمواكبة سرعة حركة الأحداث المصيرية التي كانت تمرّ بها منطقة الخليج.
}} وأشهد أن موقف المغفور له بإذن الله الشيخ خالد بن محمد القاسمي الحاكم السابق لإمارة الشارقة، كان موقفاً شجاعاً ومشجعاً، في مواجهة سطوة ونفوذ دار الاعتماد البريطاني، والتي حاولت إغلاق الجريدة وكتم صوتها.
}} وعدت وتريم معاً إلى القاهرة ثانية، بعد نحو أربعة أعوام من تخرجنا في جامعتها.. لكن في هذه المرة.. عاد تريم سفيراً، وعدت مستشاراً إعلامياً وسياسياً.. نعرف مصر جيداً، ناسها وعقليتها و«عبقرية المكان»، وأعلامها في السياسة والأدب والفن.. وكانت مصر في تلك الأزمنة تدخل مرحلة تحولات جذرية، وتموج بأحداث وتفاعلات، وتعيش عصر السادات.. عصراً مختلفاً في توجهاته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، عن عصر عبد الناصر الذي عشناه ونحن طلبة في الجامعة.
}} وقد كان تريم عمران قادراً على الوفاء بمتطلبات تكليفه كسفير، وعلى الوجه المطلوب، ومنسجماً مع نفسه وفكره، مدركاً لأهمية تفاعله مع المتغيرات في مصر، وبما يخدم المصالح العليا الإماراتية...
}} أتذكر الآن «مشوارنا على الأقدام» على شاطئ النيل، لساعة يطيب فيها الحوار، ولقاءات في مجلسه في بيته، حيث يجتمع فيه صحفيون وكتاب وفنانون.. وساعات نقضيها في «نادي الصيد» مع الأطفال، وأخرى كانت عصيبة، في متابعة أحداث حرب رمضان 1973، وتنفيذ توجيهات وزير الخارجية أستاذنا في الدبلوماسية، أحمد خليفة السويدي، بشأن دعم جهود مصر في شتى المجالات.
}} أستحضر مواقف له مشهودة، في اجتماعات جامعة الدول العربية، ودفاعه الموضوعي عن ضرورة وحدة الصف العربي، وقد رافقته في كثير من هذه الاجتماعات، وبخاصة في مؤتمرات القمة والمجالس الوزارية، وكان صوته عروبياً خالصاً، يستشعر المسؤولية، ويقدم الإمارات كدولة صاحبة رسالة، ودور نافع لأمتها وللمجتمع الدولي، ويتحدث بتلقائية، مازجاً ما بين المثقف الملتزم بقضايا الناس والمجتمع، ومقتضيات الدبلوماسية، التي تعلمها من الفطرة والمهارات والتجربة العملية.
}} ورافقته أيضاً في تنظيم أول مؤتمر دولي يعقد في أبوظبي بعد قيام الاتحاد، وكان ذلك في عام 1975 ويبحث في الحوار العربي الأوروبي، وترأسه من الجانب العربي المرحوم سيف بن غباش، وقد عقد في فندق هيلتون في أبوظبي.
}} أتذكر خطابه الشهير، الذي ألقاه أمام المغفور له بإذن الله الشيخ زايد، طيب الله ثراه، وحكام الإمارات، أثناء رئاسته للمجلس الوطني الاتحادي، وكان خطاباً جريئاً ومليئاً بالإشارات والصدق والصراحة، وقد شاركته في وضع خطوطه العريضة، وفي صياغته الأخيرة، وقد لاقى هذا الخطاب استحساناً وتقديراً عاليين، على المستويين الرسمي والشعبي.
}} كما أتذكر، موقفه المسؤول، حينما أبلغ المغفور له بإذن الله الشيخ زايد، بقصة تأخر تسلم موظفي الوزارات الاتحادية لرواتبهم الشهرية، في إحدى سنوات الثمانينات، حيث فوجئ الشيخ زايد بالأمر، فأمر بصرفها من دون تأخير.
}} وجاءته مرة صحفية معروفة، تطلب الالتحاق بمجلة «كل الأسرة»، وخشيت ألّا يُقبل طلبها.. باعتبارها عراقية الجنسية، وكان ذلك في الفترة التي أعقبت غزو صدام حسين للكويت، وكان رد المرحوم تريم على مخاوفها: «نعم.. سنقبلك معنا لأنك عراقية».
}} وكانت للقضية الفلسطينية، مكانة كبيرة في وجدانه، وفي كتاباته، مثلما كانت قضية حرية التعبير، واحتضان الأقلام المقموعة في الوطن العربي، وفتح الأبواب أمامها للكتابة وكسب العيش الكريم لها.
}} أستحضر أيضاً.. عودته إلى الوطن بعد نحو خمس سنوات قضاها سفيراً في القاهرة.. ونقلي إلى موقع دبلوماسي آخر في واشنطن.. وكيف تواصلنا وتبادلنا الأسفار، وحينما قرر إعادة إصدار صحيفة «الخليج».. كتب لي يتمنى عليّ العودة من واشنطن، والمشاركة في صنع العمر الثاني ل«الخليج» في عام 1980، وكنت وقتها في مرحلة الإعداد لبرنامج الدكتوراه، فاعتذرت، لكنني حضرت لحظة الولادة الثانية.
}} كلما استحضرت ذكراه العطرة، أستحضر عطاءه في الميادين السياسية والإعلامية، والعمل العام، وأعيش تلك اللحظات الممتدة، التي كان فيها يفرج أمامي عمّا في نفسه من متاعب المهنة الصحفية، وقلقه على أوضاع الأمة العربية المتردية، وحرصه على المثابرة في تطوير الجريدة مهنياً ومصداقية، وتجنيد أفضل الأقلام وأكثرها وعياً وتنويراً، وتمسكه باستقلالية الجريدة، وباكتفائها الذاتي مالياً.

ذكراه لا تُنسى.. سكنت في الفؤاد والعقل.

}} رحم الله أبا نجلاء وجزاه عنا كل خير.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"