ثقافة العسكر

04:16 صباحا
قراءة 5 دقائق

يبدو العنوان شائكاً، ولكن الالتزام بالموضوعية سيجعله لائقاً، فلقد عملت في حياتي الدبلوماسية مع سفراء عسكريين ومدنيين على السواء، ولابد أن أعترف بأنني قد استرحت في التعامل مع السفراء العسكريين لأنهم أكثر وضوحاً وأقل التواءً ويواجهون الآخرين بما في قلوبهم دون إخفاءٍ أو مواربة، لقد سعدت بالعمل في أول حياتي مع السفير الراحل جمال منصور في إدارة غرب أوروبا بوزارة الخارجية، ثم بالعمل مع القنصل العام محب السمرة، ثم السفير الراحل جمال رفعت، وهم من أصولٍ عسكرية، حتى بلغت سعادتي قمتها في التعامل مع السفير الراحل والقائد العسكري المتميز سعد الشاذلي، وقد أدهشني أنه أعطاني امتيازاً في التقدير السري السنوي خلال فترة عملي معه، خصوصاً أنني كنت مسؤول الشيفرة السرية (نسميه في السلك الدبلوماسي المصري سكرتير الرمز) وهو ما جعلني لصيقاً به في تعامل يومي مستمر، وقد كان الرجل عائداً من رئاسة أركان حرب الجيش المصري المنتصر عام 1973 منبوذاً من الرئيس الراحل السادات ورفاقه محملين إياه ظلماً مسؤولية حدوث ثغرة الدفرسوار .

ولقد تعلمت من ذلك القائد العسكري الكثير فهو شديد الانضباط، شديد الدقة، شديد الوطنية، كما أنه كان من أفضل من استمعت إليهم من سفراء مصر مدنيين وعسكريين عندما يتحدث بالإنجليزية، ولقد ألقى محاضرة رائعة عن مستقبل قناة السويس في قاعة المحاضرات بمجلس العموم البريطاني، كما اكتشف مبكراً وبحسٍ سياسي متوهج أهمية وزيرة التعليم مارجريت تاتشر، ودعاها إلى عشاء كبير في بيته، وكأنما كان يقرأ مستقبلها الذي تحقق بعد ذلك بشهور قليلة، لكي تصبح تلك المرأة الحديدية زعيمة حزب المحافظين، ثم رئيسة الوزراء ولتدخل التاريخ السياسي البريطاني إلى جوار ونستون تشرشل، بل وربما منافسة له في الأهمية والتأثير، وعندما استشعر سعد الشاذلي رياح الفتنة الطائفية التي بدأت تهب على الوطن المصري مع مطلع سبعينات القرن الماضي، دعا إلى لقاء كبير في السفارة بين أسقف كانتبري الرجل الأول في الكنيسة البريطانية وعددٍ من علماء الأزهر الشريف ورجال الدين الإسلامي في لندن، وكان اللقاء مهرجاناً رائعاً للفهم المتبادل وطرح القواسم المشتركة بين المسيحية والإسلام، واستضاف الرجل بوعيه وذكائه يوم إفريقيا (الخامس والعشرين من مايو/ أيار) في مبنى السفارة لأول مرة في تاريخ البعثات الإفريقية في لندن، ورأيت الدولة البريطانية تسعى إلى حفل الاستقبال في السفارة المصرية بدءاً من رئيس الوزراء جيمس كالاهان ووزير خارجيته، وصولاً إلى سفراء العالم أجمع في العاصمة البريطانية، لقد كان ذلك الرجل الذي ودعته مصر في غضون ثورتها الشعبية وكأنما أبت روحه أن تبرح جسده قبل أن تبرح دولة الفساد والاستبداد جسد مصر العظيمة صاحب أفكار متجددة وآراء غير تقليدية تعتز به العسكرية المصرية والدبلوماسية الوطنية أيضاً منذ أن قاد قوات الأمم المتحدة في الكونغو إلى أن أصبح ملحقاً عسكرياً في لندن ثم تحول إلى رمزٍ عسكري أسطوري في ذاكرة الوطن، والخارجية المصرية بالمناسبة تدين قبل ذلك لعسكري آخر متميز بجميع المقاييس هو اللواء محمد حافظ إسماعيل، الذي نظم الخارجية الحديثة ووزع الاختصاصات على الإدارات، وحدد فترات الوجود في البعثات بالخارج وبديوان الوزارة، وقنن امتحانات القبول التحريري والشفوي، ثم أصبح سفيراً رائعاً لمصر في بريطانيا وفرنسا، كما رشحه الرئيس الراحل أنور السادات سفيراً في الهند، قبل أن يغير الرئيس الحركة الدبلوماسية وينقله إلى باريس، ثم يستدعيه رئيساً لديوان رئيس الجمهورية ومستشاراً للأمن القومي، ولقد كان ذلك الرجل شخصية فذة في علمه وأمانته وخلقه ووطنيته، كما كان شامخاً يعبر عن الكبرياء المصري والعزة القومية منذ أن كان أصغر من حصل على رتبة اللواء في الجيش المصري باستثناء المشير الراحل عبدالحكيم عامر طبعاً .

ولابد أن أسجل هنا أيضاً انبهاري بثقافة عسكري آخر هو المشير الراحل محمد عبد الحليم أبو غزالة صاحب المجموعة الرائدة من الكتب في التاريخ الاستراتيجي وشؤون الشرق الأوسط، ولا أنسى لذلك الرجل لقاءً حضرته مع نائب الرئيس الأمريكي نهاية ثمانينينات القرن الماضي جورج بوش الأب في ظل رئاسة الرئيس الراحل رونالد ريجان، وقد حضرت ذلك اللقاء في قصر القبة وبهرني المشير أبو غزالة بثقافته الواسعة وتدفقه الواضح بإنجليزية طليقة وأفكار جديدة طرحها في ذلك اللقاء، ورأيت عيون أعضاء الوفد الأمريكي تتسع دهشة وانبهاراً بتلك الشخصية العسكرية المصرية، وكنت على يقين يومها بأن ذلك الرجل سوف يطاح في أقرب فرصة، ولم يخب ظني فلم يمض عام أو أكثر قليلاً إلا وقد تمت إزاحته من قيادة الجيش تحسباً من مكانته وتخوفاً من وهم منافسته على الحكم، رغم أن ذلك لم يكن في أجندة ذلك القائد المنضبط، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل جرت عملية تشويه لسمعته بشكل مدبر حتى لا تقوم له قائمة! ولقد أصاب رذاذٌ من تلك العملية الرخيصة كاتب هذه السطور في ذلك الوقت، حيث عدت إلى الخارجية المصرية البيت الذي خرجت منه ولا أمان إلا فيه .

هذه خواطر ألحت عليّ وأنا أتابع الأداء الوطني الشريف للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، وهو يسعى إلى إعادة ترتيب البيت في ظل ظروفٍ بالغة التعقيد شديدة الحساسية، ولقد كنت دائماً ولا أزال وسوف أظل من المتحمسين للعسكرية المصرية وتاريخها الطويل في بناء الدولة العصرية، منذ عصر محمد علي حتى الآن، ويجب ألا ننسى أن ذلك الجيش العريق هو الذي يحتفل بمرور مئتي عام على إنشاء الكلية الحربية وهي سابقة على معظم الأكاديميات العسكرية في الشرق والغرب على السواء، وأتذكر الآن مقولة، وزير الدفاع الأمريكي غيتس منذ عامين: يبقى الجيش المصري أكبر جيوش الشرق الأوسط وأكثرها مهنية لذلك فإنني لا أجد غضاضة في أن أحيي صراحةً ثقافة العسكر، وهل ينسى المصريون أن أحمد عرابي ومحمد نجيب وجمال عبدالناصر وأنور السادات وغيرهم هم أبناء المؤسسة العسكرية المصرية، وتحضرني الآن علاقة توطدت بيني وبين الفريق أول محمد فوزي القائد العام الأسبق للقوات المسلحة المصرية في السنوات العشر الأخيرة من عمره الحافل، فهو القائد الذي جمع شتات القوات المسلحة بعد هزيمة يونيو/ حزيران ،1967 عندما استطاع الجيش المصري الباسل دخول معركة رأس العش بعد أقل من أسبوعين من يوم النكسة تأكيداً لجسارة الجندي المصري خير أجناد الأرض، ولقد شاركنا ذلك القائد العسكري الجاد بعض الندوات الفكرية واللقاءات السياسية، لذلك فإنني أكتب اليوم عن ثقافة العسكر بعد الدور الرائع الذي أسهموا به في حماية ثورة يناير الشعبية والتي تكاد تجعلهم شركاء مباشرين في إنجاحها ورفع أعلام الوطن فوقها .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"