ثمانون عاماً بعد كتاب العميد

02:30 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. مصطفى الفقي

يذكر التاريخ المصري الحديث بعض الكتب المحورية التي تركت بصمات قوية على الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية ونالت شهرة كبيرة في وقتها، ثم امتدت تلك الشهرة لتعبر حاجز الزمن وتبقى نقاط تحول لا تختفي، ولسوف يبقى كتاب (الإسلام وأصول الحكم) لعلي عبد الرازق مثيراً ما بقيت قضية الخلافة الإسلامية متداولة، ولسوف تبقى كتب للعقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم وسلامة موسى وغيرهم علامات مضيئة في مسار الفكر والأدب للقرن العشرين، وهناك كتب أخرى ربما لم يتحقق لها نفس القدر من الشهرة ولكنها لا تقل أهمية، ولعلي أتذكر الآن كتاب (المسألة المصرية) لصبحي وحيدة، وهناك عشرات الكتب ذائعة الصيت قوية التأثير في تاريخنا الحديث ولكن يبقى لكتاب عميد الأدب العربي د. طه حسين (مستقبل الثقافة في مصر) الذي صدر عام 1938 مذاق خاص لأنه كتاب محوري بمعنى الكلمة، ولقد لفت نظري للذكرى الثمانين لنشر ذلك الكتاب الأديب المصري الكبير والناقد المعروف د.جابر عصفور وزير الثقافة الأسبق، فلقد تفضل واتصل بي واقترح على مكتبة الإسكندرية أن تحتفي بالذكرى الثمانين لصدور ذلك الكتاب، ولقد قدرت له هذه المبادرة وطلبت على الفور تخصيص إحدى جلسات المؤتمر السنوي للمكتبة والقادم خلال أسابيع قليلة للاحتفاء بهذا الكتاب، ودعوت الأديب المفكر صاحب المبادرة لكي يترأس تلك الجلسة. إذ إن جابر عصفور هو حفيد أكاديمي لطه حسين باشا تيسر له أن يراه مباشرة من خلال الجيل الأوسط الذي تمثل في أستاذته الراحلة سهير القلماوي.
ويثير كتاب (مستقبل الثقافة في مصر) أجواء لا تزال باقية ويحرض على التفكير تجاه قضايا لا تزال قائمة، ومكتبة الإسكندرية تحديدًا باعتبارها عند النشأة الأولى نتاجاً لتزاوج الحضارات الفرعونية واليونانية والرومانية تقترب كثيراً من فكر الأستاذ العميد حين ربط بين مستقبل الثقافة في مصر وبين شعوب البحر المتوسط ولا سيما بلد (الحضارة الهلينية) التي تربطها بالإسكندرية ومكتبتها صلات عميقة وممتدة حتى الآن، ونحن نطالب بإحياء أفكار ذلك الكتاب ولا نراه مختلفاً مع عروبة مصر أو إسلامها، ولكنه يعبر عن شريحة مؤثرة من تاريخها الحضاري الذي تنفرد به ويفاخر شعبها بوجوده، لذلك فنحن نتطلع إلى مناقشات واسعة حول رائعة طه حسين بحثاً في مستقبل الثقافة بل والتعليم والبحث العلمي أيضا، كما أن كلمة الثقافة هنا تشمل البيئة السياسية والمناخ الفكري بما يفرزه من آداب وفنون بل وتتجاوزها إلى بعض العلوم الحديثة، ولعلنا نطرح في هذه المناسبة الملاحظات التالية:
أولاً: إن طه حسين صاحب (الأيام) وابن الأزهر الشريف قد عاد من فرنسا وهو يحمل إحساساً عالياً بالتزاوج بين الثقافات حتى استطاع أن يقوم بعملية (تضفير) بين الحضارة العربية الإسلامية والحضارة الغربية المسيحية، وقد اعتمد الفلسفة الحديثة منهجاً واستمد من ذخيرته الكبيرة في المعارف المتصلة بالحضارتين قوة دفع نحو رصد المستقبل المحتمل لذلك التزاوج بين المدرستين الكبيرتين في الفكر المصري المعاصر والتي تجنح إحداهما نحو (الأصولية) بينما تسعى الأخرى نحو (الحداثة). وتبقى قيمة كتاب طه حسين باعتباره وثيقة تاريخية ترتبط بشخصية مصر الحضارية وهويتها القومية.
ثانياً: ما أحوجنا الآن ومصر تسعى للخروج من عنق الزجاجة والتحليق في آفاق المستقبل إلى استرجاع تلك الرؤى البناءة التي طرحها ذلك الكتاب العمدة في موضوعه وأظن أن العميد - الذي أتشرف بالإقامة في حجرته بفندق سيسل بالإسكندرية - كان فاقداً للبصر ولكنه كان ثرياً في البصيرة غنياً في الرؤية، وعندما كان يعزف موسيقاه اللفظية بلغته الفريدة فإنه كان لا ينسى جوهر المعنى ولا يستغرق في الشكل على حساب المضمون، لذلك وردت أفكار عصرية في معظم كتبه بل وفي (أحاديث الأربعاء) أيضاً، ولكن مجرد اتجاهه للاهتمام بمستقبل الثقافة المصرية والحفاوة بهذا الموضوع الجوهري فإن الأمر يجعلنا ندرك أننا ما زلنا نعيش معه ونقتدي به ونقتبس منه.
ثالثاً: إن طه حسين الذي امتد به العمر ليشهد حرب أكتوبر المجيدة حتى إن صديقه ورفيقه توفيق الحكيم قال يومها: لقد أبت روح طه حسين أن تفارق جسده قبل أن تفارق الهزيمة جسد الوطن، هكذا كانت لغة الكبار وليتنا نستعيد كثيراً من أضواء عبقريات العقاد والمنهج العلمي لسلامة موسى أو حتى نعيد قراءة «الأيام» للأستاذ العميد، فهي قطعة من الشجن النبيل والحزن الغامض لرجل هو ظاهرة لا تتكرر على مر السنين.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"