جريمة بوسطن: حقائق ترافقها مبالغات كبرى

04:56 صباحا
قراءة 4 دقائق

في أحداث ماراثون بوسطن، يستوقف المرء بين دلالات عديدة للتفجيرات المروعة، أمران متباعدان بعض الشيء ومتعارضان .

الأمر الأول، أن أصابع الاتهام وجهت إلى شابين من الشيشان، ومعلوم أن الجماعات الشيشانية المسلحة تناصب موسكو العداء على خلفية الحملة الروسية على إقليم الشيشان، وخاصة العاصمة غروزني في العام الأول من الألفية الثالثة، لدرء انفصال هذا الإقليم بالقوة الساحقة، إلا أن العداء الشيشاني على هذا النحو للولايات المتحدة هو أمر مستجد، هذا إذا ثبت أن الشابين المتهمين على صلة بجماعات مسلحة قومية في بلادهم، أو إذا كانت لديهما في الأصل ميول أو ارتباطات سياسية ما . وفي جميع الأحوال ومن دون استباق لنتائج التحقيقات، فقد صَدَقَ من ذهب إلى أن هذا الحدث المأساوي قد وحّد بين أمريكا وروسيا! . . ويضيف المرء هنا أن هذا التوحد موضعي ويحجب مشكلات كثيرة، رغم أن الخطر النووي الكوري كان أقل فاعلية في توحيد مواقف الدولتين الكبيرتين من هذا الحدث الطارئ .

من الواضح بعدئذٍ أن كون الشابين المتهمين مسلمين، أعاد مجدداً فوبيا المسلمين لدى مجتمعات غربية، وهي معضلة تحتاج إلى حل، إذ يكفي أن يرتكب مسلم واحد أو اثنان جناية ما في أي مكان في العالم، حتى ينبعث رُهاب الإسلام والمسلمين! . . أجل، لابد من حل يقوم على إعادة النظر ومراجعة التقييم، بغرض فك الارتباط التلقائي المزعوم بين أي جناة يصدف أن يكونوا مسلمين وبين مجتمعاتهم الأولى وعقائدهم الدينية، تماماً كما يحدث في حال وقوع جناية يقترفها غربيون وغير مسلمين، فلا يتم الربط بين الجناة ومجتمعاتهم أو إثنياتهم أو ثقافاتهم، ولا تتخذ الجناية أبعاداً خارجها تفيض عن حجمها الحقيقي، ووجهتها الفعلية . ولكن، مَنْ يقوم بإعادة النظر هذه؟ ومن بوسعه وقف استثمار هذه الفوبيا التي تغذي مصالح وحسابات البعض في الغرب، وخاصة اللوبيات الصهيونية ومعها معسكرات اليمين المحافظ، فيما يراها البعض (الفوبيا) من القوى الأصولية، أنها دليل على السطوة والاقتدار وغزو عقر دار العدو؟

إنها لمعضلة حقاً، ومن حسن الطالع أن جاليات مسلمة وعربية في الغرب تنهض بالعبء الأكبر في وقف تشويه صورة المسلمين، وهؤلاء الناشطون هم أفضل سفراء وممثلين للإسلام والمسلمين، رغم أن بعضهم عرب غير مسلمين كما كان حال المفكر الراحل إدوارد سعيد .

الأمر الثاني الذي استوقف المرء في تداعيات انفجارات بوسطن، هو ما برز من أهمية تقنيات الاتصال الحديثة المتوافرة بين أيدي الناس، وبالذات أجهزة التصوير وما التقطته من أفلام خلال السباق .

كان الحديث يجري عن إعلام مواز ينهض به أفراد في التصوير والتوثيق والتعليق والبث الفوري، مما تستعين به مؤسسات إعلامية كبيرة مسموعة ومرئية ومكتوبة، وذلك مع ظهور أجيال من صحافيين هواة يشهدون على الأحداث اليومية حولهم كبيرها وصغيرها، ولا يلبث بعض هؤلاء أن يصبحوا متمرسين في عملهم، وليس هذا الحديث ببعيد عن الصواب بالطبع .

كما كان الحديث يدور حول اقتصادات تقنيات وسائل الاتصال الحديثة، وما توفره من استثمارات ومن صناعات تكميلية ومن أسواق ومنافسات وفرص عمل . وواقع الحال أن هذه التقنيات باتت تتغلغل في سائر مجالات الحياة وترافق الناس وتستقبلهم حيثما حلوا أو ارتحلوا .

عقب وقوع انفجارات بوسطن مباشرة يوم الاثنين 15 إبريل/ نيسان الجاري، عكف محققون أمريكيون على تحليل أفلام التقطها الكثير من الأشخاص المتابعين لمجريات الماراثون . وهكذا بدلاً من الاكتفاء بكاميرات ثابتة مزروعة هنا وهناك في أماكن محددة، فإن آلاف الكاميرات بأيدي الناس المبثوثين في كل مكان تؤدي المهمة على خير وجه وبصورة تلقائية . تقول كارمن نورث مديرة برنامج أننبرغ المختص بدراسة النشاط البشري على شبكة الإنترنت التابع لجامعة ساثرن كاليفورنيا ، في تعليق على أحد مواقع التواصل الاجتماعي: التاريخ يوثقه الآن الملايين من البشر يومياً، بفضل آلات تصوير غير منفصلة عن الهواتف الذكية متعددة الاستعمالات، خلافاً لآلات التصوير التقليدية .

من المعلوم أن أجهزة الأمن والدفاع هي أول من استخدمت خدمات الإنترنت الأولى في العالم، وهي في مقدمة من يواكب التطورات المتسارعة في هذا المجال، غير أن الجديد في الأمر أن الأشخاص العاديين من غير المحققين، ومن غير العاملين في وسائل الإعلام، باتوا يوفرون خدمات جُلّى في مجال توثيق أحداث دراماتيكية يصدف وجودهم قرب مسارحها، ويتحولون إلى شهود عيان يقرنون شهاداتهم بأفلام وثائقية . وفي المحصلة، فإن الحقيقة لا التاريخ فقط تتجه إلى أن تكون ملكاً للناس يتداولونه ما بينهم، بعدما يشاركون في رصد الأحداث بصورة عفوية في سياق حياتهم اليومية .

كان هذا الدور منوطاً بوسائل الإعلام، غير أن صناعة الإعلام كأية صناعة أخرى تخضع للقوانين المقيدة أحياناً، كما تتعرض لضغوط السوق ورؤوس الأموال، وهي ذاتها بحاجة إلى رؤوس أموال كبيرة، بينما حركة الأفراد غير مقيدة، وما يحوزونه سرعان ما يتم تداوله على مواقع التواصل وعلى أوسع نطاق، بعد أن بات أكثر من سُدس البشرية أعضاء في هذه الشبكات، وأعداد المشتركين فيها تتزايد بصورة ملحوظة كل يوم . .

واللافت بعد هذا أن الاحتكام إلى الحقائق والوثائق التي يوفرها الناس العاديون في مثل هذه الواقعة الأليمة، يترافق جنباً إلى جنب مع المبالغات والأوهام، عن تحميل الملايين من أتباع ديانة ما مُسبقاً، مجمل التبعات والمسؤوليات .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"