حرب الزعامات في ليبيا

04:15 صباحا
قراءة 3 دقائق
الحسين الزاوي

تمثل الحالة الليبية استثناء كبيراً بالنسبة للدول العربية، التي شهدت تطورات سياسية مفاجئة مع بداية سنة 2011؛ وذلك نتيجة لضعف مؤسسات الدولة المركزية، التي جرى بناؤها بعد الاستقلال عن الاستعمار الإيطالي، والتي تمت إعادة هيكلتها غداة الانقلاب العسكري، الذي قاده العقيد القذافي في الفاتح من شهر سبتمبر/‏أيلول 1969، وقد أسهم مقتل القذافي خلال الشهور الأولى من اندلاع أحداث ما بات يعرف في ليبيا بثورة 17 فبراير/‏شباط، في انهيار كل التوازنات القبلية والمناطقية، التي كانت قائمة، وفي دخول ليبيا دوامة من الفوضى السياسية العارمة الناجمة عن حرب الزعامات بين مختلف المناطق والقوى السياسية المؤثرة في المشهد الداخلي، كما أسهمت الأجندات الدولية والإقليمية المتعارضة في إفشال كل محاولات التسوية السلمية، التي قادتها الأمم المتحدة، ومنظمة الوحدة الإفريقية وجامعة الدول العربية.
ويكمُن عنصر المفارقة الكبرى في تجليات الأزمة الليبية الراهنة، في أنه وخلافاً للاضطرابات، التي كانت بعض دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مسرحاً لها خلال السنوات الأخيرة، فإن الصراع في ليبيا لم يعد قائماً بين النظام والمعارضة؛ ولكن بين حكومتين وعاصمتين متعارضتين، وبخاصة بعد انتخابات سنة 2014 التي أفرزت تمثيلاً برلمانياً جديداً رفضه النواب المنتهية ولايتهم، ونجم عن ذلك استقطاب حاد وانقسام للدولة بين مرجعيتين سياسيتين واحدة في طبرق والأخرى في طرابلس. وأدت هذه الوضعية الغريبة إلى انهيار اقتصادي شبه كلي وإلى تفتيت مراكز السلطة، كما نجم عنها شلل في العديد من المؤسسات المالية والخدماتية للدولة؛ بسبب تعيين شخصيتين مختلفتين في المنصب نفسه، كما الشأن بالنسبة لمصرف ليبيا المركزي.
وبالتالي فإنه وبالرغم من الاتفاق السياسي، الذي أبرم سنة 2015، والذي أسهم في تشكيل حكومة الوفاق الوطني والمجلس الرئاسي في طرابلس، إلا أن الخلاف بين الأطراف المتصارعة ما زال على أشده؛ لأسباب عديدة قد يكون من أبرزها افتقاد حكومة فايز السراج، التي تحظى باعتراف دولي، إلى مؤسسات أمنية متجانسة وخضوعها في عدة مناسبات إلى ابتزاز الميليشيات المسلحة، التي تتبنى في غالبيتها الساحقة أجندات جماعات الإسلام السياسي؛ وترفض بالتالي الاعتراف بمشروعية الجيش الوطني الليبي، وتعرقل كل المحاولات الهادفة إلى توحيد المؤسسات الأمنية الليبية، وإخضاعها لقيادة مركزية قادرة على إنهاء فوضى السلاح وعلى ضمان تطبيق الاتفاقات، التي يتم التوصل إليها، وعلى حماية الخيارات الديمقراطية للناخبين.
وقد مر مسار تسليح الميليشيات والمجموعات، التي لا تخضع لسيطرة المؤسسة العسكرية الليبية، بعدة مراحل؛ حيث قامت كل من فرنسا وبريطانيا في الفترة ما بين شهري فبراير وأكتوبر من سنة 2011 بإلقاء شحنات أسلحة، كان بعضها موجهاص إلى تجمعات سكانية أمازيغية بجبل نفوسة من طرف سلاح الجو الفرنسي، وقد استمر الدعم الأجنبي المقدم لهذه المجموعات بطرق غير مباشرة من طرف دول عديدة؛ مثل قطر وتركيا؛ حيث تسعيان للدفاع عن مشروع الإسلام السياسي في المنطقة؛ وذلك بموازاة استمرار الحظر الأممي على تسليم السلاح لأطراف النزاع في ليبيا بشكل يتعارض تماماً مع المساعي، التي بذلتها دول مثل جمهورية مصر العربية؛ من أجل تزويد الجيش الوطني الليبي بالمعدات العسكرية التي تسمح له بتطوير قدراته الدفاعية؛ لإنهاء سيطرة الميليشيات على مناطق شاسعة من التراب الليبي، كما حدث مؤخراً بعد نجاحه في تحرير مدينة درنة والموانئ النفطية من قبضة المسلحين.
ويرى المتابعون للشأن الليبي، أن إمكانية التزام مختلف الأطراف بتعهداتها أمام الرئيس ماكرون في لقاء باريس المنعقد في شهر مايو الماضي، بمشاركة جهات دولية وإقليمية وازنة وفي مقدمها المبعوث الأممي غسان سلامة، والذي جرى الاتفاق خلاله على تنظيم انتخابات برلمانية ورئاسية عامة بتاريخ 10 ديسمبر المقبل، تبقى جد ضعيفة؛ نتيجة لتزايد حدة الخلافات وللاحتقان السياسي المهيمن على مختلف الأطراف المتصارعة، وبخاصة وأن المواجهة المسلحة ستتركز خلال الأسابيع والأشهر المقبلة حول خليج السدرة، الذي يضم الموانئ النفطية؛ فقد أشارت الأخبار الواردة من مسرح العمليات في الهلال النفطي، أن ميليشيات مصراتة والمجموعات المسلحة بغرب البلاد، تعمل على حشد قواتها؛ من أجل إنهاء سيطرة قوات الجيش الوطني الليبي على الموانئ النفطية.
ومن الواضح في الأخير أن ليبيا دخلت منذ انتخابات يوليو 2012، التي اعتمدت على نظام الاقتراع النسبي، في مواجهة سياسية وعسكرية شاملة قائمة بشكل كبير على مفاهيم القيادة الفردية، وعلى الاستقطاب الحاد بين التيارين الإسلامي والليبرالي؛ وذلك على حساب البرامج السياسية الرصينة، التي من شأنها توحيد كل فئات المجتمع حول الثوابت الوطنية للشعب الليبي، ومن المستبعد في المرحلة الراهنة أن تقود حرب الزعامات الحالية، التي يسهم في إذكاء جذوتها سلاح الميليشيات القائمة على الولاءات المناطقية والقبلية، إلى إعادة تشكيل عناصر الهوية الجامعة التي يمكنها التصدي لدعوات التجزئة والتقسيم.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"