حلول غير تقليدية لمشكلات مزمنة

05:39 صباحا
قراءة 4 دقائق

من يتأمل أوضاع مصر قبل ثورة يناير 2011 وبعدها سوف يكتشف أننا ما زلنا ندور في الحلقة المفرغة نفسها عند مواجهتنا للمشكلات المزمنة في حياتنا بدءًا من قضايا التعليم والصحة ومسائل الإسكان والمرور وما يتصل بها من تراجع للخدمات وضعف في الإنتاجية، وما يتبع ذلك أيضًا من تدهور في السلوك العام، ولقد آن الأوان لأن يتعامل المصريون مع مشكلاتهم المزمنة بأسلوبٍ عصري يقوم بتوظيف الوسائل الحديثة للدراسة والبحث والتنقيب في جوانب المعاناة التي تشهدها حياتنا المعاصرة، ولا بد من تشكيل رؤية متكاملة تقتحم المشكلة ولا تكتفي بالدوران حولها ولنا في ذلك الشأن عدد من المحاور نسوقها في ما يلي:

أولاً: إن الذي يميز أسلوبًا في التحليل عن غيره ويرفع مكانة العقل الذي يقف وراءه هو اتباع المنهج الصحيح من بين مناهج البحث المتاحة، إذ إن جدولة الذهن واعتناق مفهوم الرؤية الشاملة والاستغراق في فهم فقه الأولويات هذه كلها عناصر تسهم بشكل فعال في كيفية اقتحام المشكلة المزمنة بمنطق علمي سليم وأسلوب عصري شامل، لذلك فإن الفارق بين تناول العلم لمشكلة معينة وبين تناول الخرافة لها هو بون شاسع يفصل بين المعرفة واللا معرفة .

ثانيًا: إننا لا نبدأ من فراغ، فعندما نتناول مشكلة ما فإننا نتجه إلى السوابق لها جغرافيًا وتاريخيًا أي من حيث المكان والزمان لملاحظة الأوضاع النظيرة محليًا وخبرات الدول الأخرى عالميًا، وبذلك يستقيم لنا تصور متكامل لأبعاد المشكلة المزمنة وكيفية التعامل معها، فليس المطلوب أبدًا أن نسقط من حسابنا تجارب الأمم وخبرات الشعوب، فالتواصل الإنساني مستمر والحراك الفكري لا يتوقف وما من مشكلة نواجهها إلا ولها سوابق بأبعاد مختلفة، وذلك هو (دهاء التاريخ) على حد تعبير الفيلسوف الراحل الدكتور فؤاد زكريا .

ثالثًا: إننا لا يمكن أن نتعامل مع مشكلة ما في إطار مطلق بل لا بد من الانتساب لحدود زمنية واضحة بدلاً من الاسترسال من دون ضوابط، وذلك حتى نتحكم في المسافة الزمنية التي يتحقق فيها الهدف، لذلك فإن الأمر يحتاج إلى استيعاب الإمكانات المادية المطلوبة، كما يتمثل الجانب المتصل بالبرامج المطلوبة تحت تعبير شامل هو الخطة، بينما يتمثل جانب الموارد المتاحة في ما نطلق عليه الموازنة، ولذلك فإن حشد الموارد يرتبط بتوظيفها الأمثل عند محاولة اقتحام مشكلة مزمنة .

رابعًا: إن الحل غير التقليدي يعني بالضرورة الخروج من الصندوق المغلق والتعامل مع المشكلة بأفق واسع ونظرة رحبة تقبل التغيير وتؤمن بالإصلاح وترى أن الجديد أنفع في مواجهة المشكلة من تلك الحلول الروتينية التي تقوم على نظرية التسكين بل وتتجاوز ذلك إلى حد إنكار وجود المشكلة ذاتها، ولو أن كلاً منا أمعن النظر في أسلوب حل المشكلات المطروحة لاكتشف أن العجز الحقيقي يكمن في الإحجام عن المغامرة والابتعاد عن المسالك الواضحة في مواجهة البلادة والغوغائية ونقص المعلومات .

خامسًا: إن مفهوم الإصلاح يختلف من عصر إلى عصر ومن نظام سياسي إلى غيره، وذلك يستدعي مسحًا شاملاً للمشكلات وتصنيفها في تجاوز محدود بحيث ينتهي الأمر إلى ظهور مجموعات متجانسة بينها حد أدنى من المشترك السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي، بحيث يمكن التعامل مع المشكلة مجتمعيًا وتعميم الحلول أحيانًا وفقًا للعناصر المشتركة بينها . سادسًا: إن الذي يتطلع لتحقيق برنامج النهضة يجب أن يضع في حسبانه أن الأمور تبدأ بالرؤية الشاملة والنظرة المتكاملة، وليتذكر الجميع التجربة الهندية الرائدة عندما استطاع جواهر لال نهرو رئيس وزراء الهند في مطلع خمسينات القرن الماضي أن يقيم مركزًا قوميًا دائمًا للتخطيط يقوم على المركزية في وضع السياسات وعلى اللامركزية في تطبيقها ثم استمر الهنود على هذا النهج لم يتركوه حتى يومنا هذا، حتى أصبحت الهند واحدة من الدول الصناعية العشر الكبرى ودولة فضاء ودولة نووية ودولة اكتفاء ذاتي في الحبوب الغذائية لما يقرب من مليار ومئتي مليون نسمة .

سابعًا: إن علم الإدارة يجب أن يتصدر اهتماماتنا، لذلك فإنه لم يعد غريبًا أن نجد المتخصصين في المجالات العلمية والتطبيقية كافة يتوجون دراساتهم العليا بتخصص مستمر في علم الإدارة وفلسفته، فالفارق بين منزل وآخر أو مكتب عمل ونظيره هو أسلوب الإدارة ومنهجها، ومازال الصديق خبير الإدارة، الدكتور صبري الشبراوي يلفت النظر إلى هذه المسألة في كل مناسبة .

ثامنًا: إن الأمر يتطلب قبل كل شيء تشكيل الرؤية المتكاملة التي تصوغ المستقبل وتحدد ملامحه وترسم الإطار لحل المشكلة على المدى القصير والمدى الطويل، والأمر يتطلب في هذه الحالة وفقًا لخيال واسع يضع أمامه تصورًا دقيقًا للهدف ووسائل الوصول إليه، فالمسألة ليست ارتجالاً بقدر ما هي عقل يفكر ومنطق يطبق ورؤية تدوم .

تاسعًا: إن التوجه المعاصر لمواجهة المشكلات يقوم على حسابات تستفيد من الأشواط التي قطعها علم تكنولوجيا المعلومات في العصر الإلكتروني، وهنا أطالب بشدة باقتصار دورها على جمع قاعدة البيانات من دون اتخاذ القرار، فالعقل الإنساني مازال أرقى أجهزة التعامل مع المشكلات الحادة والقضايا الحيوية، فالمضي وراء التقدم التكنولوجي يجب أن يكون محسوبًا هو الآخر .

عاشرًا: إن الإيمان بالتخصص واحد من لزوميات العصر وأدواته المهمة، فإذا كنا نؤمن بنظرية وحدة المعرفة ونتحمس لها فإننا نعترف في الوقت ذاته بأن الطرق المختلفة قد تؤدي إلى الحل الواحد وليس صحيحًا أنه توجد صيغة واحدة لحل مشكلات الشعوب، وهذه نقطة مهمة لأنها تعني أن الذين يتعاملون مع مسألة معينة يجب أن يكونوا من مجموعة متعددة من التخصصات المرتبطة بطبيعة المشكلة، إذ لا يوجد حل واحد بل إن الأمر قد يؤدي إلى التعددية والاتساع على نحو لم يكن معروفًا في الأزمنة الماضية . هذه محاولة لفتح ملف مهم في هذه الفترة الحرجة من تاريخ الوطن ولا بد من الوعي الكامل بأبعادها حتى يتحقق للوطن المصري في هذه المرحلة الخروج من أزماته المتكررة ومواجهة مشكلاته المتعددة وصياغة رؤاه الشاملة .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"