حوارات ولحظات ممتدة

00:32 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. يوسف الحسن

}} تتالت أسفاري في الشهور التسعة الأخيرة، للمشاركة في مؤتمرات وندوات تدور حول الحوار بين الثقافات والأديان، وتبحث في مفاهيم التسامح والتنوع في المجتمعات، وفي مخاطر انتشار ثقافة الكراهية الجماعية وقضايا الإرهاب والغلوّ.

}} والحق، أن تجربة الحوار بين الثقافات والأديان، هي تجربة غنية ومفيدة، مارستها منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي وحتى الآن، وتفاعلت معها، وأدركت خلالها مدى تأثيرها الإيجابي في معالجاتنا السياسية.
}} شملت أسفاري في المرحلة الأخيرة، مشاركة في مؤتمرات للحوار في أستراليا وأذربيجان وتركيا وماليزيا، في الفترة من سبتمبر/‏‏أيلول ٢٠١٤، إلى فبراير/‏‏شباط ٢٠١٥.
}} في الرّحلة ما بين دبي وبريزبن الأسترالية، اكتسبتْ رفقة السفر مذاقاً طيباً، وبخاصة مع نخبة من قادة كنائس ومعابد، يمثلون المجتمع اللاهوتي غير المسلم، من المقيمين في الإمارات والذين جاءوا للمشاركة في مؤتمر التسامح والوئام بين الأديان، والذي ترعاه الأمم المتحدة، وتشارك الإمارات وجامعة Giffthالأسترالية، وجامعات أخرى في تنظيمه، ودعمه، في إطار قمة العشرين، المنعقدة في بريزبن خلال سبتمبر ٢٠١٤.

}} وأدرك المشاركون في هذا المؤتمر، أهمية النموذج الإماراتي في احترام حرية المعتقد، وتوفير كل الوسائل المساندة لهذه الحرية، وذلك من خلال العروض المقنعة التي قدمها ممثلو الكنائس والمعابد في الإمارات، وسردياتهم لإسهامات الدولة في تقديم الأرض المجانية، لبناء أماكن العبادة، والعون المادي، والرعاية، لضمان وكفالة حرية الاعتقاد لغير المسلمين.
}} وأشرت في كلمتي أمام المؤتمر إلى فهمنا الإسلامي والإنساني لفكرة التسامح والتنوع الثقافي، ليس فقط كمتطلب أخلاقي وثقافي وروحي، بل أيضاً كنظم وقوانين وإجراءات عملية.
}} ويبدو أن حديثي، وما عرضه ممثلو الكنائس والمعابد في الإمارات، من احترام لحرية المعتقد، أثار حفيظة سيدة أسترالية من بين الحضور، فتقدمت إلى المنصة بسؤال، ظنّت السيدة أنه سيحرجني، وقالت: «إذا كان ما ذكرتم عن الإمارات صحيحاً، فلماذا إذاً لا يوجد معبد يهوديّ (Synagogue) في الإمارات؟».

}} استحضرت ما لديّ من صبر، ودبلوماسية، وابتسامات، وقلت لها: «يا سيدتي، تستضيف الإمارات عشرات الجنسيات المختلفة، من زوّار ورجال أعمال وعابرين، ولا نسألهم عن دياناتهم، وقد يكون من بينهم يهودي فرنسي أو أسترالي أو أمريكي أو هندي... إلخ،... وعلى حدّ علمي، فإن الجهات المختصة لم تتلق طلباً طوال العقود الماضية، من جماعة يهودية معتبرة، تطلب إقامة معبد لها». وأضفت: «إن إيمان المسلم لا يكتمل إلا إذا آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله». «لا نفرّق بين أحد من رسله».
صفّق الحضور، وشاهدت السيدة إياها، تغادر مقعدها إلى خارج القاعة، قبيل اختتام الجلسة.

} } }

في باكو، عاصمة أذربيجان شاركت في المنتدى الإنساني الدولي، المخصص للحوار بين الثقافات، والمنعقد في الثاني من أكتوبر/‏‏تشرين الأول ٢٠١٤، .

}} في منتدى باكو،... غلب حديث السياسة على حديث الثقافة والأديان، وكان الحضور الروسي والتركي والإنجليزي ملحوظاً، وتحدّث الأتراك في معظم جلسات المؤتمر، عن الإرهاب ومخاطره على العالم، في حين سلّطت وفود كثيرة على مسائل العولمة، وتأثيراتها في التقاليد، والتحولات المجتمعية، والتنوع الثقافي، وكيفية صياغة أجندة عالمية جديدة للعمل الإنساني.
}} وأشرت في مداخلة لي، رداً على بعض المفاهيم المغلوطة حول الإسلام، وبخاصة المفاهيم ذات الصلة بالجهاد، وتطرقت إلى ظاهرة الإرهاب، وطالبت تركيا بمراجعة سياساتها الخاطئة تجاه احتضان جماعات إرهابية، ودعمها وتمويلها وتسليحها وتدريبها وتوفير التسهيلات اللوجستية لها.
}} وقد أثارت مداخلتي هذه، غضب رئيس الوفد التركي الدكتور أكّان سوفير (Akkan Sover) رئيس مؤسسة مرمرة للبحوث الاجتماعية والاستراتيجية، وجاء ردّه بشكل عصبي، وتحدّث عن لاجئين سوريين وعن شباب أوروبيين وغير أوروبيين، يزورون تركيا كسيّاح، ثمّ- هكذا يقول-: «نفاجأ بأنهم يعبرون الحدود ليقاتلوا في سوريا».

}} في الحوار الإسلامي المسيحي، المنعقد في اسطنبول، في الحادي عشر من نوفمبر/‏‏تشرين الثاني ٢٠١٤، كان اللقاء هو الثالث من نوعه، والذي ينظمه الفريق العربي للحوار الإسلامي المسيحي، بالتعاون مع الكنيسة الدّنماركية ومجالس مسلمي الدّنمارك.
}} كان الحوار منصباً حول قيم العيش المشترك، ومواجهة التهديدات والمخاطر الراهنة، من إرهاب وغلوّ ديني.
}} كان السعي الأساس، للمشاركين في هذا اللقاء، هو باتجاه البحث عن الجوامع المشتركة، وتساوي الناس في الكرامة الإنسانية والتسامح الثقافي، في مواجهة نفي الآخر، وإبطال المناخات المفعمة بالعنصرية والمخاوف، التي تطل في بعض جنبات أوروبا، وضرورة لقاء المؤمنين بالقيم الروحية، لإزالة سوء الفهم بين أتباع الديانات وتعزيز تعارفهم، وصولاً إلى تعاونهم على البرِّ والتقوى ومقاومة الفساد والقبح والطغيان، ومواجهة صعود اليمين المتطرف، في أكثر من دولة أوروبية.
}} زرت اسطنبول، عدة مرات في العقود الماضية، لكنني في هذه المرة، شعرت بأن بعض ملحها قد فسد، وتذكرت أن صديقاً شاركته الحوار في القاهرة وبيروت، وعرفت فيه نخوة وظرفاً ووعياً عميقاً في المسيحية والإسلام، مازال مخطوفاً على يد عصابات إرهابية، منذ أكثر من عام، وهو يوحنّا إبراهيم، المطران السرياني لأبرشية حلب.
}} لم أتجول في اسطنبول، ولم أقف أمام جوامعها التاريخية ومتاحفها، ولم أمتع عيني بمشاهدة البوسفور، ولا بأسوار ما كانت تسمى القسطنطينيّة، ولم أمشِ في أسواقها، خشيت أن أعثر على كاهن أو شيخ سوري لاجئ، يطلب العون من الناس، بدلاً من السماء.
}} في الحوار بين الثقافات والأديان في ماليزيا، وفي رحاب الجامعة الإسلامية العالمية في كوالالمبور، انعقد حوارنا في الرابع من فبراير ٢٠١٥، أعدنا تقديم أنموذج الإمارات، كدولة عربية مسلمة، في مجالات التسامح والعيش المشترك والاعتدال والتنمية، وتعرّف المشاركون إلى تجربة التنوع الثقافي والديني في المجتمع الماليزي، وتساءلت رئيسة الجامعة الإسلامية، عن مفهوم التسامح في الإسلام. ووجهت سؤالها مباشرة إليّ، بعد سماعها كلمتي التي ألقيتها، وقالت: كيف لي أن «أسامح» جاري الصيني الأصل، الذي يملك كلباً ينبح طوال الليل؟... قلت لها ضاحكاً: «اطلبي من جارك أن يستبدل كلباً، غير نبّاح بكلبه النبّاح»، وهذا هو المعنى الحقيقي للتسامح..، باعتبار أن التسامح هو قبول الآخر كما هو، بمعتقده وعاداته وثقافته.
}} وحينما سمعت قسيساً مصرياً مشاركاً في الحوار يقول: «إن الإمارات سمحت لنا بحرية العقيدة». قلت له: «إن حرية المعتقد والعبادة، هي حق لك، أقرّه الإسلام وليس منّة من أحد».
}} عرفت في مسيرة الحوار الإسلامي المسيحي، أصدقاء كثراً، وأساتذة تعلمت منهم الشيء الكثير، من أمثال المغفور له الدكتور عزّ الدّين إبراهيم، وسماحة السيد علي الهاشمي، وطارق البشري، والأمير الحسن بن طلال، والقسّ الدكتور رياض جرجور، وقد قامت بيني وبين جرجور مودّة صادقة وفهم مشترك لهموم الحوار، وتعاونت معه بصفتي عضواً مؤسساً للفريق العربي للحوار الإسلامي المسيحي منذ عام ١٩٩٥، في سبيل تعميم ثقافة الحوار. ووجدت فيه الرجل الذي يسعى للتقريب بين المسلمين والمسيحيين بلا استعلاء ولا فوقية ولا جدل جارح.
}} الاختلاف هو سنّة من سنن الله في الخلق، غير خاضعة لأي تبديل أو تحويل، «ولو شاء ربّك لجعل الناس أمّة واحدة، ولا يزالون مختلفين» (سورة هود ١١٨).

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"