حينما تبكي التماثيل

00:45 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. يوسف الحسن

}} هل رأيتم تمثالاً يبكي؟ هل رأيتم متاحف للتاريخ الإنساني، ومساجد وكنائس وبيعاً ومراقد ومعابد وهي تُهدّم وتُدمّر، وتُنهب؟ هل شاهدتم، كيف تُحطم رؤوس تماثيل تاريخية بواسطة المثاقب الكهربائية، فيبكي «الثور المجنّح» في الموصل، وينتحب «الأسد» ويسقط رأسه المنحوت، تحت أعمدة تَدمُر المحطمة؟

}} هل رأيتم، كيف كانت المطارق الحديديّة الحادة، تُقطِّع رأس تمثال (أبي العلاء المعري)، وتهشِّم أجساد آثار نادرة، وتهوي على رؤوس (عقول) تماثيل وتسحقها، بعد أن عاشت هذه الآثار في ظل الحضارة الإسلامية منذ نشأتها وحتى الآن. لا عمرو بن العاص ولا معاوية ولا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، آذوا أو أخفوا أهرام مصر ولا المعابد الفرعونية، ولا آثار العراق وسوريا أو الأردن، أو آثار حضارة مملكة سبأ في محافظة مأرب، بما فيها عرش بلقيس ومعابد الشمس.
}} صمدت هذه الآثار في الوطن العربي، وفي دول إسلامية عديدة، لأكثر من ألفين من السنين، وجعلت هذه الآثار فكرة السفر عبر الأزمنة ممكناً، وقوّة الإحساس بأحداث التاريخ عالية، وثرية في دروسها وعِبَرِها.
}} عبَّرت هذه الآثار، عن الكثير من النماذج الحضارية الإنسانية، وعن قوّة الإنسان، وحكمته وشجاعته وتطلعه لعمران الأرض، والبحث عن الحقيقة، وأسرار الكون، وعظمة الخلق وروعة آيات الجمال في خلق الله.
}} صان العرب والمسلمون، تراث الفكر الإنساني وطوّروه وأضافوا إليه، وبخاصة اليوناني والروماني، فضلاً عن الحضارات العريقة من سومريّة وبابلية وأشورية وفينيقية وغيرها، لم يرَ العرب والمسلمون في هذه الآثار، مظنّة أن تتخذ للشرك في الألوهية، أو أنها تماثيل للعبادة، أو أنها تمثل شاغلاً للمؤمن عن صلاته وعبادة الله.
}} لقد زار الإمام الشيخ محمد عبده، أثناء رحلته لجزيرة صقلية في عام 1903، المتاحف والمقابر والآثار التي تحكي بالتماثيل آثار الغابرين، وكأنها من سجلات التاريخ، وكان يرسل إلى مجلة (المنار) فصولاً يحكي فيها مشاهداته في رحلته، ويؤكد «أن حفظ الآثار، بالرسوم والتماثيل، هو حفظ للعلم والحقيقة، وشكر لصاحب الصنعة للإبداع فيها».
}} وزيَّن الخلفاء في الأندلس، قصورهم في غرناطة وقرطبة وإشبيليّة وطليطلة وغيرها، بالرسوم والتماثيل، للطيور والحيوانات والنباتات والبشر، ووضعت في المساجد رسوم لسور من القرآن الكريم، تمثل قصة أصحاب الكهف، ورسوم لغراب نوح، وهدهد سليمان، وانتشرت كذلك رسوم وتماثيل لأسود وصقور.

}} ولا يزال قصر الحمراء في غرناطة، المشيّد في النصف الثاني من القرن العاشر الميلادي، من أبرز سمات العمارة الإسلامية، وفيه ساحة الأسود، ونافورة الأسود التي على حوضها المرمريّ المستدير، يوجد اثنا عشر تمثالاً لأسود من الرخام، تُخرِج المياه من أفواهها بحسب ساعات النهار والليل.

}} تذكرت، وأنا أشاهد قبل شهور، عمليات الحرق والذبح والتدمير للبشر والحجر، والتي مارسها «الدواعش» وملحقاتهم، بوحشية بالغة، تذكرت ما تركه الغزو المغولي لبلاد المسلمين في القرن الثالث عشر، من دمار وتخريب، في العمران والحياة المدنيّة والسياسيّة، ومن إزالة لمعالم مدن عامرة، وزاخرة بالحضارة، وتفكيك لنسيج المجتمعات والدول القائمة، وفتح الأبواب، أمام تغييرات عرقيّة سكانيّة هائلة.
}} تذكرت أيضاً، ما قاله المؤرخ ابن الأثير، عن تلك المرحلة الكارثية: «يا ليت أمّي لم تلدني، ويا ليتني متّ، قبل هذا الغزو المغولي».
}} يا ترى.. كيف كانت حال ضمير الإنسانية، وهو يرى «داعش والنصرة» وأخواتهما، وهم يمحون ذاكرة الأجيال، ويفقدوننا فرصة ثمينة «لإغلاق الدائرة الزمنية، التي تحقق التواصل بيننا وبين الماضي، ويزيلون عبق التاريخ؟».
}} من المؤكد أن هذا الضمير الإنساني كان حزيناً، لكنه، من أسف، كان أيضاً خاملاً، حتى حينما اعتبرت منظمة اليونسكو أن ما جرى من تدمير للمكتبات وللمتاحف والآثار ونهبها، هو «جريمة حرب».
}} نعم.. هذه لحظات سود في التاريخ الإنساني، تستولدها الجهالة والتعصّب الأعمى والكراهية، والهويّات الملفّقة، وثقافة النبذ والإقصاء والغلوّ والعنف المسعور الذي يدفع إليه العقل اللاهوتي المغلق.. إلخ.
}} إن روح التعصّب الأعمى الديني، ونوازع الشر والهيمنة، هي التي دفعت الحملات الصليبيّة (التي سميناها حروب الفرنجة) في أواخر القرن الحادي عشر، إلى محاصرة أهل أنطاكية، وقذفها، بواسطة المجانيق برؤوس أبناء حلب المقطوعة، والممثّل بها أشنع تمثيل، ما أدّى إلى زرع الرعب في نفوس الأهالي، فدخل الصليبيّون أنطاكية، وذبحوا أهلها، ودمروا عمرانها.
}} وفي مدينة المعرّة السوريّة، وبعد سقوط أنطاكية، وكما يروي أمين معلوف في كتابه (الحروب الصليبيّة كما رآها العرب): «قاوم سكان المعرّة، الغزاة ببسالة، حتى سقطت أسوار المدينة، بعد أن تسلَّق إليها الفرسان الغزاة، الذين قتلوا ما يزيد على مئة ألف من سكان المدينة، وسبوا الكثير..».
}} وقد سجل مؤرخ فرنجي قائلاً: «كان الفرنجة الغزاة يَغْلون أهل المعرّة في القدور، ويَشُكّون الأولاد في سفافيد، ويلتهمونهم مشويين» وذلك بفعل التعصّب.
}} حينما وصل «داعش» إلى تدمر، تذكَّرت تجوالي قبل أكثر من أربعة عقود، في متحف برلين القديم، الذي بني في منتصف القرن التاسع عشر، ودمرت الحرب العالمية الثانية بعض أجزائه.
}} ودهشت أثناء الزيارة، لكثرة «المنهوبات» الأثريّة من سوريا والعراق ومصر، والموجودة في هذا المتحف، شاهدت وقتها التمثال النصفي للملكة الفرعونية نفرتيتي، والذي يبلغ عمره أكثر من ثلاثة آلاف عام، إضافة إلى كمٍّ هائل من التحف والآثار والتماثيل من حضارات ما بين النهرين.. وسألت بدهشة واستغراب: ما الذي أتى بهذه الآثار إلى برلين؟ وكيف تجمّعت كل هذه الكنوز الحضارية، في متاحف بريطانية وفرنسية وهولندية وروسيّة.. إلخ؟
}} قالت زوجتي، بتهكّم واضح، للدليل السياحي الألماني الذي يرافقنا في زيارتنا لمتحف برلين القديم: «لقد دفعنا ثمن تذاكر الدخول، لمشاهدة آثار وتحف مسروقة من بلادنا».

}} وفي المتحف البريطاني، وقفت قبل سنوات قليلة، أمام تماثيل «الثيران المجنّحة»، التي نقلت في عام 1849، من موقعها في هضبة النمرود في نينوى، حيث عاشت هناك قرابة ثلاثة آلاف عام، وحملها البريطانيون في «طوافات بحرية» بعد أن غطّوها بجلود الماعز والخراف، وعبروا بها نهر دجلة إلى البصرة، حيث كانت سفن البحريّة البريطانية بانتظار نهب هذه «الثيران»، وشحنها إلى مسافة تزيد على اثني عشر ألفاً من الأميال إلى بريطانيا، ووضعها في المتحف البريطاني.

}} اليوم.. وفي ظل تدمير آثار ومتاحف ومخطوطات، في أجزاء عديدة من الوطن العربي.. أعتذر لكل متاحف الدول «الإمبريالية»، التي تؤوي آثار حضارات الشرق المنهوبة، وتحفه وتماثيله وكنوزه، وأشكر الله وأحمده، على أن «الإمبرياليين» والمستعمرين، قد سرقوا هذه الآثار، وأسكنوها ديارهم وحافظوا عليها في متاحفهم.
}} كأن هؤلاء «الحراميّة»، والشطّار والعيّارين والزعران والحرافيش «المستعمرين»، كانت لديهم عيون «زرقاء اليمامة»، أو امتلكوا نظرات استشرافيّة ونبوءة، بأن وحوشاً «داعشية ونصريّة وقاعديّة وطالبانيّة» سيفتكون بهذه الآثار ذات يوم أغبر وينهبونها، تحت سمع العالم وبصره، وفضائيّاته، - وأحياناً - أثناء وجود قوات الاحتلال الأمريكي بالقرب من متحف بغداد.. وقيل وقتها في عام 2003: «إن القوات الأمريكيّة، كانت منشغلة بحراسة وزارة النفط».
}} لنتخيل «داعش» للحظات.. في ساحة اللوفر، أو أمام المتحف البريطاني.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"