خلاص العراق بمشروعه الوطني

03:31 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. محمد السعيد إدريس

الأزمة الآن.. هي أزمة كل العراق المستقطب بين طهران وواشنطن والعاجز عن الانتصار للمشروع الوطني العراقي المستقل الذي سيبقى شرطاً موضوعياً لخروجه منتصراً من كبوته الراهنة.

يواجه العراق ما يمكن اعتباره «أزمة مجتمعية مستحكمة»، تجاوزت الحدود الضيقة لكونها أزمة حكم تتعلق بصعوبة اختيار رئيس جديد لحكومة جديدة بديلة للحكومة التي أسقطها الحراك الشعبي العراقي الذي تفجّر منذ أكتوبر/ تشرين أول الماضي، مطالباً بإسقاط «الطبقة السياسية الحاكمة» ورموزها المتهمة بالفساد، وإيجاد حلول للمشاكل الاقتصادية والمعيشية، لكونها أزمة مجتمع آخذ في الانقسام والاستقطاب على أسس طائفية (شيعية - سنية) وأخرى عرقية (عربية - كردية)، وإلى تمايز وتعارض وانقسام غير مسبوق في حركة الشارع العراقي، بين تظاهرات شعبية تعبر عن «حراك شعبي» فرض نفسه على العاصمة العراقية بغداد وثماني محافظات جنوبية تطالب بالتغيير الجذري في سياسات وآليات الحكم ومحاربة «الطائفية السياسية» وإسقاط الطبقة الحاكمة ذات الولاءات «العابرة للوطن». وبين تظاهرات أخرى مختلفة تركز على محاربة النفوذ الأمريكي في العراق، وتطالب بإلغاء الاتفاقية الأمنية الموقعة مع الولايات المتحدة، وطرد كل القوى الأجنبية من العراق. وهي التظاهرات التي زادت حدتها عقب اغتيال الجنرال قاسم سليماني قائد «فيلق القدس»، ومعه أبو مهدي المهندس نائب رئيس هيئة «الحشد الشعبي».

مشكلة هذا الانقسام بين الحراكين تعود إلى شبهة الاختراق الخارجي وتشويه نزاهة المطالب ومن ثم الحيلولة دون التلاقي بين الحراكين ومطالبهما، أي بين التغيير الجذري السياسي والاقتصادي وبين التحرر الوطني والاستقلال، إن جاز التعبير، من الخضوع للهيمنة الأمريكية، وذلك بإخراج القوات الأمريكية من العراق. فالحراك الأول، الذي له الأغلبية والاستمرارية والذي تعرض لعمليات قمع دموية من قوات الأمن، ومن جانب أطراف أخرى مجهولة، مُتهم من جانب إيران وحلفائها بأنه حراك تقوده وتحركه واشنطن، ويستهدف استئصال النفوذ الإيراني من العراق لمطالبته بإسقاط الطبقة السياسية الحاكمة التي هي في أغلبها أقرب إلى طهران ومشروعها السياسي الإقليمي، لذلك تحارب إيران وأعوانها هذا الحراك بضراوة، ويسعون إلى إجهاضه واحتوائه بتقديم «حلول إصلاحية» لا تمس جوهر الحكم وسياساته، من دون إخلال ب «المعادلة السياسية» الحاكمة القائمة على «المحاصصة السياسية» التي فرضها الاحتلال الأمريكي للعراق، والتي جاءت، وهنا تكمن المفارقة الكبرى، لتخدم المصالح الإيرانية على حساب النفوذ الأمريكي وحلفائه.

فما شرعه الأمريكيون للعراق بعد احتلاله نجح الإيرانيون في تطويعه لخدمة مشروعهم.

أما الحراك الثاني الذي يطالب ب «طرد الأمريكيين» من العراق، فهو متهم من جانب الولايات المتحدة وحلفائها داخل العراق وخارجه بأنه «حراك إيراني» هدفه الحفاظ على النفوذ الإيراني، لذلك ترفضه الولايات المتحدة وتشكك في نزاهته، ويدعم هذا الموقف كل المتضررين من سطوة النفوذ الإيراني في العراق، سواء كانوا من حلفاء واشنطن أو من عشائر وقيادات وأحزاب ليست تابعة للأمريكيين، ولكنها تضررت من معادلة الحكم شديدة الاختلال، التي جاءت لمصلحة كل من المكونين الشيعي والكردي وعلى حساب المكون السُني. لذلك فإن معظم السنة متعاطفون مع الحراك الشعبي الذي يطالب بفرض معادلة سياسية جديدة لحكم العراق، ويؤيدونه أملاً في التوصل إلى مشروع سياسي وطني جديد غير طائفي يرسي قواعد العدالة السياسية والمواطنة المتساوية، وهم في ذات الوقت ليسوا على عداء مع الحراك الآخر الذي يطالب بإخراج القوات الأمريكية، لكنهم، مثلهم مثل الأكراد، متخوفون من مآلات الحكم في العراق بعد خروج القوات الأمريكية التي يرون أنها «قوة موازنة» للنفوذ الإيراني وحلفائه، ويعتبرون وجود هذه القوات «أهون الشرين»، فضلاً عن أنها «ضمانة» لمواجهة جديدة باتت محتملة، إن لم تكن «مؤكدة» مع عودة لتنظيم «داعش».

السؤال المهم الذي لم يفرض نفسه بالقوة اللازمة في العراق حتى الآن هو: هل توجد إمكانية للتقريب بين هذين الحراكين؟

للوهلة الأولى ستكون الإجابة هي «لا»، لأن ظاهر الحراكين هو صراع بين طهران وواشنطن، بين المشروع الإيراني والمشروع الأمريكي في ظل غياب المشروع الوطني العراقي، لكن بين ركام كل تلك الصراعات هناك من يحاولون القفز على كل الاستقطابات والمشروعات المشبوهة والدعوة إلى مشروع وطني متكامل يحقق الإصلاح السياسي والاقتصادي، ويؤمِّن التحرر الوطني على نحو ما يسعى إليه الآن مقتدى الصدر زعيم التيار الصدري الذي وإن بدا كأنه يتخبط في مواقفه بين الحراكين، إلا أن جوهر تحركه هو التوفيق بين الحراكين، وإن كان يعطي أولوية لأحدهما على الآخر، فإن هذه الأولوية تأتي من باب ترتيب الأولويات. فمطالبته بإخراج القوات الأمريكية تأتي كأولوية تمهد، من وجهة نظره، لإحداث التغيير الداخلي، ولكن هذه الأولوية جعلته يصطدم مع «الحراك الشعبي» المطالب بالتغيير، وجعلت بعض أنصاره يفضلون الانشقاق عنه بدلاً من البقاء ضمن تياره.

الأزمة التي تواجه مشروع مقتدى الصدر الآن هي أزمة كل العراق العاجز عن التوفيق بين أولوياته والمستقطب بين طهران وواشنطن والعاجز عن الانتصار للمشروع الوطني العراقي المستقل، الذي سيبقى شرطاً موضوعياً لخروج العراق منتصراً من كبوته الراهنة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"