دبلوماسية الدولار

03:20 صباحا
قراءة 4 دقائق
عاصم عبد الخالق

للاقتصاد كلمته المهمة وربما الفاصلة في تقرير مصير الاتفاق الموقع أخيراً بين إيران ومجموعة الدول الكبرى. القاعدة المعروفة تقول إن كل طرف في أي صفقة سياسية كانت أو تجارية يسعى إلى تحقيق أقصى قدر من المكاسب، وأنه بقدر التوازن الممكن بين الربح والخسارة يحدد موقفه في النهاية. هذا بالضبط ما فعلته الولايات المتحدة وإيران في الاتفاق الأخير، وما ستفعلانه في الأسابيع والأشهر المقبلة سواء لتقدير مدى الالتزام بالتعهدات المتبادلة المنصوص عليها، أو إمكانية البناء على ما تم لتحقيق قفزات أخرى على صعيد العلاقات الثنائية أو التوصل إلى تفاهمات بشأن القضايا الإقليمية.
هذا يعنى أن الاتفاق الأخير الخاص بالملف النووي الإيراني ليس أكثر من بداية يعقبها خطوات أخرى إيجابية أو سلبية بناءً على الإجراءات التي سيتخذها كل طرف، وطريقة تقييمه لأداء الطرف الآخر، وتقديره لمدى التزامه بنص وروح الاتفاق.
وإذا كانت كل الأنظار تتجه إلى طهران حالياً لمراقبة ما ستفعله وفاء بتعهداتها، فإن الولايات المتحدة بدورها سيكون عليها القيام بخطوات وإجراءات مقابلة، إما لتشجيع إيران أو الضغط عليها. والمفترض في هذا الشأن أن تلعب واشنطن دوراً بناءً من وجهة نظر طهران لإعادة دمج الاقتصاد الإيراني في الاقتصاد العالمي، ضمن جهد أشمل يستهدف في النهاية دمج إيران ككل في المجتمع الدولي الذي عزلها وحاصرها سنوات طويلة.
وليس صحيحاً أن تقديم محفزات تجارية لإيران في صورة استثمارات أو مشاريع مشتركة سيصب في صالحها فقط، لأن الغرب أيضاً والولايات المتحدة على وجه الخصوص سيجني هو الآخر مكاسب سياسية استراتيجية تتجاوز بكثير مكاسبه الاقتصادية شبه المضمونة.
هذا الرأي عبر عنه بوضوح تقرير مهم نشرته مجلة «فورين افييرز» الأمريكية الشهيرة حمل عنوان «دبلوماسية الدولار في طهران». وفيه تتحدث المجلة عن المدى الذي يتعين على الولايات المتحدة أن تذهب إليه في السماح لشركاتها بالاستثمار في إيران كإحدى الوسائل المهمة والضرورية لتحفيزها ومن ثم إنجاح الاتفاق النووي. وتعتبر المجلة أن إبعاد الشركات الأمريكية عن السوق الإيرانية سيكون خطأً استراتيجياً فادحاً، وأن السماح لها بل تشجيعها على العمل هناك هو القرار الصائب الذي يصب في مصلحة البلدين في النهاية.
وترصد المجلة حزمة من المكاسب التي ستجنيها الولايات المتحدة من الدخول إلى الأسواق الإيرانية، أهمها أن واشنطن ومن خلال استثماراتها ستمتلك ورقة ضغط مهمة على الحكومة الإيرانية يمكنها استخدامها عند الحاجة. كذلك فإن وجود الاستثمارات الأمريكية والغربية في إيران واعتماد الاقتصاد الإيراني عليها يجعل إعادة العقوبات مسألة أكثر إيلاماً للقيادة الإيرانية التي ستفكر أكثر من مرة قبل المخاطرة باتخاذ أي إجراء يؤدي إلى هذا الاحتمال المؤلم.
هناك أيضاً التأثيرات الاجتماعية والسياسية لوجود رأس المال الأمريكي داخل إيران، حيث سيتم توظيفه لاستهداف قطاعات مهمة مثل الشباب وهم أكثر ميلاً إلى الغرب بحكم حداثة أعمارهم وتعليمهم وطموحاتهم. ولا يخفى أن وجود استثمارات أمريكية في إيران سيستتبع بالضرورة تشكيل شريحة اجتماعية ترتبط مصالحها بهذه الاستثمارات، وبالتالي سيمثل أفراد هذا الشريحة قوة ضغط داخلية جديدة لمصلحة علاقات أكثر قرباً ووداً مع واشنطن.
وإجمالاً ستعمل الأموال الأمريكية على دعم وتقوية المجتمع المدني الإيراني في مواجهة القوى التقليدية المتمثلة في الحرس السياسي القديم ورجال الدين، وهو تطور ستستفيد منه الولايات المتحدة بلا شك.
وتطرح المجلة في تقريرها ثلاث خطوات أساسية يجب على إدارة الرئيس أوباما اتخاذها لتسهيل الاستثمارات الأمريكية في إيران أولها أن توفر الجهات الرقابية والمحاسبية في الولايات المتحدة دليل عمل تفصيلياً للقطاع الخاص للاسترشاد به حول كيفية القيام بأعمال في إيران. على أن يتم تلافي الأخطاء التي سبق أن وقعت فيها وزارة الخزانة عندما قدمت للشركات إرشادات متناقضة وغير وافية بشأن كيفية التعامل مع منظومة العقوبات عند إبرام أي صفقة خارجية تكون إيران أحد أطرافها. مع الأخذ في الاعتبار هنا أن العقوبات الأمريكية ستظل سارية على إيران حتى بعد رفع العقوبات التي فرضها مجلس الأمن.
الخطوة الثانية هي أن تنشئ واشنطن نظاماً مؤسسياً أفضل للتواصل مع مجتمع الأعمال بما في ذلك فتح خط ساخن يخصص للعقوبات على إيران باعتبارها الأكثر تعقيداً في التاريخ. وعلى أساس أن الشركات تحتاج دائماً لمن يقدم لها المشورة القانونية للمرور الآمن عبر الدروب الملتوية والمتشابكة لتلك المنظومة العقابية الفريدة من نوعها.
الخطوة الأخيرة التي يقترحها التقرير هي السماح للشركات الأمريكية بالمشاركة في استثمارات محددة ومختارة في إيران، وأن تتوسع الإدارة في منحها التراخيص اللازمة لذلك دون أي عراقيل.
في كل الأحوال للولايات المتحدة تاريخ طويل في التلويح بالعصا والجزرة لخصومها وأصدقائها على السواء. وقد حققت هذه السياسة نتائج لا بأس بها في الكثير من الحالات. وبالنسبة لإيران فقد استخدمت واشنطن العصا الغليظة عبر مجموعة قاسية من العقوبات الاقتصادية والحصار والعزلة وحتى التهديد بالحرب. وربما يكون الاتفاق الأخير هو ثمرة هذه السياسة ودليل نجاحها. غير أن مرحلة جديدة قد بدأت بالفعل بعد توقيع الاتفاق وبالتالي فإن السياسات والآليات التي ستستخدم بعده ستختلف بالتأكيد عما اتبع قبله. الآن حان وقت التلويح بالجزرة، وإيران تعلم هذا جيداً وتنتظر أن تقطف الثمار.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"