دروس وعبر

02:45 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. علي محمد فخرو

ما يحدث في فنزويلا شأن يخصّ بالطبع الشعب الفنزويلي، الذي يواجه شتّى المؤامرات الداخلية والخارجية، القريبة والبعيدة.
لكن ما يهمنا، نحن العرب، هو الظاهرة الفنزويلية، لنتعلّم منها ونعي عِبرها. دعنا نركز على بعض من مكونات وتداخلات تلك الظاهرة التي نعتقد أن بعض تفاصيلها تشير إلى الدروس والعبر الواجب استيعابها.
أولاً: ملكت فنزويلا عبر قرن كامل مخزوناً بترولياً هائلاً، يماثل مخزون المملكة العربية السعودية، وهناك من يقول إنه يزيد على ذلك. بهذه الثروة كان بإمكان فنزويلا أن تبني بنية تحتية حديثة كفؤة، واقتصاداً إنتاجياً غير ريعي، بما في ذلك إنتاج زراعي وافر من أرض حباها الله بالمياه والتربة الخصبة، وتقدم لمجمل شعبها خدمات اجتماعية معقولة لمواجهة الفقر، والتهميش، والجهل.
لكن النخبة السياسية الفنزويلية تعثرت بأشكال مختلفة ولأسباب متنوعة، في بناء نظام سياسي ديمقراطي مستقر يجمع بين الروح الثورية والفكر التقدمي من جهة، وبين متطلبات الواقع المعقد الصعب في داخل فنزويلا وحول محيطها المملوء بالمؤامرات الاستعمارية والرأسمالية الجشعة، من جهة أخرى.
الدرس الذي يجب أن تتعلمه دول الغنى البترولي والغازي في بلاد العرب، هو أن الثروة الريعية التي لا يصاحبها فكر سياسي عادل، ومؤسسات حكم تمثل جميع شرائح المجتمع، يأخذ في الاعتبار مطالب ومصالح مكونات ذلك المجتمع، واستعمال جزء كبير من تلك الثروة لترسيخ اقتصاد إنتاجي ومتطلبات تنمية إنسانية مستدامة، فإن تلك الثروة ستكون مطمعاً لكل من هبّ ودبّ، من قوى استعمارية كالولايات المتحدة، ومن مؤسسات رأسمالية أنانية تعيش على استباحة ثروات الآخرين. وستجد في الداخل من يعين الخارج على تلك الاستباحة.
تلك الصورة المأساوية من عدم الاستعداد السياسي والاقتصادي المسبق، هي التي تعيشها فنزويلا الآن.
ثانياً: ليس غريباً على مؤسسة الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية أن تمارس كولونيالية ابتزازية سافرة في فنزويلا، من خلال تجييش عملائها في الداخل والخارج، واستنفار مخابراتها، والدول السائرة في فلكها، والتهديد باستعمال القوة ضد حكم منتخب، من دون مراعاة للأعراف والقوانين الدولية. فتاريخ أمريكا هو قصة طويلة من تدخلات واعتداءات على بلدان ومؤسسات وتصفية لأشخاص اعتبرتهم أمريكا معادين لها.
إنها قصة تحتاج لمجلدات لتوضيح ملابساتها، وسرد مآسيها العمرانية والبشرية، وسنكتفي بذكر بعض من عناوين فصولها.
تاريخ القصة الأمريكية بدأ بالتخلص من ثمانين في المائة من سكان القارة الشمالية الأصليين، الهنود الحمر ، سواء بالذبح أو بنشر الأمراض، مروراً باستعباد أربعة ملايين من الأفارقة وتسخيرهم لخدمة كبار ملاكي المزارع البيض، مروراً بموجات غزو من أقصى الشرق الأمريكي إلى أقصى غربه للاستيلاء على ثروات الأرض وساكنيها، واقتطاعاً لأرض بنما من كولومبيا حتى تبقى قناة بنما تحت سيطرة أمريكا ومداخيلها نهباً لشركاتها، واستيلاء على الفلبين كمستعمرة أمريكية مستغلة.
وما إن حل القرن العشرين حتى زاد جنون الاستحواذ بشكل مريع: استعمال سلاح القنابل الذرية في قتل ربع مليون ياباني، وتشويه مئات الألوف، اعتراف بالكيان الصهيوني في فلسطين العربية بعد بضع دقائق من قيامه ودعمه بالمال والسلاح والنفوذ حتى يومنا هذا، تدبير انقلاب على رئيس وزراء إيران، محمد مصدق، عقاباً له على وقوفه في وجه الشركات الجشعة، تخطيط ودعم انقلابات تآمرية على حكومات شرعية في تشيلي ونياكاراجوا وإندونيسيا، خوض وقيادة حروب مدمرة للعمران والبشر في كوريا وفيتنام وكمبوديا، تآمر على حركة قومية عربية تقدمية لمنع قيام أية وحدة عربية من أي نوع كان، تلفيق كذبة كبرى حقيرة من أجل استباحة العراق ونهب ثرواته، تدخل وتآمر وتلاعب بأشكال لا تعدُ ولا تحصى في المشهد السوري.
كان لا بد من ذكر كل ذلك، وهو قليل من كثير، لتتضح الصورة تماماً، ويقتنع الجميع بأن ما تفعله أمريكا في فنزويلا هو تتمة لسلسلة طويلة من تدخلات واستحواذات.
هل ستعي النّخب السياسية العربية، أن الأيادي التي تمدها للولايات المتحدة الأمريكية، ومشاعر الصداقة والثقة التي تملأ الدنيا بالإعلان عنها، وتخطيط المستقبل العربي بمعيتها وحمايتها ووعودها قابلة للانقلاب عليها ؟
هل كل ذلك التاريخ يوحي بالاطمئنان تجاه أية وعود تقدمها أرتال من السياسيين الأمريكيين وهم يجوبون أرض بلاد العرب من أقصى مغربها إلى أقصى مشرقها؟
إن الانقسام المجتمعي المؤسف في فنزويلا هو المدخل الذي تدخل من خلاله أمريكا لتقضي على طموحات وآمال شعبها ولتعيد ذلك البلد إلى حظيرة الاستباحة والاستغلال.
فهل سيتعلم العرب الدرس ويعرفون أن انقساماتهم العبثية الكثيرة هي مدخل دائم للتدخلات الغربية، وغير الغربية في شؤونهم؟
درسان واضحان تقدمهما الأحداث في فنزويلا، وهما جديران بالتأمل والاستفادة من عِبرهما.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"