دموع البابا وأحزان الوطن

05:03 صباحا
قراءة 4 دقائق

أجلسناك . . أجلسناك . . أجلسناك، كانت هذه هي صيحة ألقاها القائم مقام ومعه كل المطارنة والأساقفة والقمامصة والشمامسة إيذاناً بجلوس الأنبا تاوضروس الثاني على مقعد مار مرقص باعتباره البابا 118 في تاريخ الكنيسة الوطنية المصرية، وعندها انهمرت دموع البابا الجديد من وقر المسؤولية ورهبة اللحظة، وربما اختلطت معها أيضاً أحزان وطن جريح فقد قبلها بيوم واحد ما يزيد على خمسين مصرياً معظمهم من الأطفال في حادث أليم يعكس حجم الاستهتار واللامسؤولية التي تعوّد عليها المصريون، وإن كانت الدنيا تقوم ولا تقعد لشهداء غزة وهذا أمر واجب إلا أن شهداء أسيوط يستحقون مثلهم حزناً ، تداعت في خاطري كل هذه المعاني وأنا أشهد حفل تنصيب البابا في ذلك الصباح من يوم الثامن عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني 2012 . ولقد أتاحت لي الظروف أن أعرف البابا الجديد من خلال الحبر الجليل الأنبا بوخوميوس الذي عبر بالكنيسة إلى شاطئ الأمان في ظل ظروف صعبة اشتدت فيها العواصف على الوطن وتجمعت السحب في سمائه، ولكن الرجل استطاع بحكمته أن يحافظ على وحدة كنيسته التي هي جزء لا يتجزأ من الوطن المصري الكبير، وعندما صافحت البابا الجديد قلت له تعلم أنني خريج مدرسة (أبو عبد الله الابتدائية) في دمنهور في ذات الحي الذي عشت أنت فيه، قال لي أعرف ذلك لأنني كنت تلميذا في مدرسة الأقباط على مسافة قريبة من الحي الذي أسكنه، وعندما كرمني صديق عزيز بالدعوة على الغداء مع قداسة البابا الجديد يوم تنصيبه قلت له إن زوجتي سعيدة أنك من مواليد المنصورة مثلها، فقال كما تربيت كذلك في مدينة واحدة مع زوجها! وقد احتشد في ذلك الغداء ممثلون للدول المختلفة والكنائس المتعددة والكل يتقدم نحو البابا الجديد مباركاً وكأنها تقاليد البيعة كما عرفناها في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، إضافة إلى كل المطارنة والأساقفة وأحبار الكنيسة الكبار من داخل الوطن وخارجه في فرحةٍ لا تخلو من ذكرى عطرة للبابا الراحل شنودة الثالث . ولم تغرب عن بالي طوال الوقت هموم الوطن التي تتقمصنا جميعاً بدءاً من المخاوف المشروعة على سيناء الغالية مروراً بحالة التسيب العام الذي تعودناه منذ عدة عقود وصولاً إلى ملف مياه النيل الذي لم نتعامل معه بالجدية المطلوبة، دعنا نتوقف هنا عند الملاحظات التالية:

أولاً: إن ثورة 25 يناير2011 كانت ضرورة لأن العمر الافتراضي للمرحلة السابقة كان قد انتهى بكل المقاييس وقررنا أن نخرج جميعاً من دولة الفساد والاستبداد إلى دولة الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية لا أن نقع في براثن العجز الداخلي والاستهداف الخارجي، بينما نحن منقسمون على أنفسنا تحكمنا حالة مزرية من الشخصنة والطموحات الذاتية لدى كل الأطراف، إن مصر أكبر وأعرق وأعمق من كل ما يجري وما جرى وتستحق أفضل كثيراً من هذا وذاك، فنحن في فترة تحوّل يجب أن تتضافر فيها الجهود الوطنية وأن تتوحد الأمة المصرية على قلب رجل واحد لمواجهة هذا الظرف العصيب والمخاطر المحيطة بالوطن .

ثانياً: لا نرى مبرراً لحالة التراشق المتبادل والشرذمة المتعمدة بين كل الأطراف، فلقد عشت في الهند بلد الديانات المختلفة واللغات المتعددة والقيم الاجتماعية المتباينة ومع ذلك استطاع شعبها أن يجعل من الهند دولة عظيمة في كل المجالات، فهي دولة نووية ودولة فضاء وواحدة من الدول العشر الصناعية الكبرى في العالم فضلاً عن الاكتفاء الذاتي في الحبوب الغذائية لمليار ومائتي مليون نسمة! وفوق هذا وذاك وهذا هو المهم أنهم يملكون أكبر ديمقراطية حديثة في العالم المعاصر، فأين نحن منهم وقد كنَّا رفاق طريق أيام غاندي وسعد زغلول وأيام نهرو وعبد الناصر ، إنهم يتميزون بالجدية والاستمرار، بينما نأخذ نحن الأمور بسطحية ولا نواصل طريقاً بدأناه وكأنما كتب الله على مصر أن تلحق أحزانها بكل فرح يأتيها وكل إنجازٍ يتحقق لها .

ثالثاً: إن مصر جزء لا يتجزأ من الأمتين العربية والإسلامية ولديها من الرحابة والسماحة ما يجعلها تحترم الآخر، وتتفاعل مع الغير بروح التعاون الإنساني والرؤية المشرقة للمستقبل الواحد للجنس البشري كله، إنني لا أطرح هنا أفكاراً طوبائية أستمدها من مباخر حفل الكنيسة الأرثوذكسية ولكنني ألوذ قبل ذلك بالوثيقة الرائعة التي أصدرها الأزهر الشريف وشيخه المستنير منذ شهور قليلة والتي أسمعت الدنيا صوت الإسلام المعتدل وفلسفته الراقية وشريعته السمحاء، حتى إن البابا الراحل أصر على التوقيع عليها في مكتب الإمام الأكبر قبيل وفاته بفترة وجيزة . إننا نريد الأصوات الواعية والأفكار المستنيرة والرؤى الواضحة، فمصر لم تعد تتحمل مجازفاتٍ أو اختبارات أو التورط في مواجهات ليست مستعدة لها فهي تمر بفترة نقاهة متذبذبة بعد جراحةٍ ثورية غيرت المعالم وبدلت الشخوص واستبدلت الأفكار والآراء والمواقف أيضاً ، فالمتحولون كثر ولا أمان لمن لا يكون الوطن هو مبدأه ورسالته وغايته .

رابعاً: أهيب بأشقائنا العرب أن ينظروا إلى مصر التي يحبونها حضارةً وأرضاً وشعباً مهما اختلفت مشاربهم واتجاهاتهم أن يقفوا مع هذا البلد الذي باركته ديانات السماء الثلاث وورد ذكره في العهدين القديم والجديد وتردد في القرآن الكريم عدة مرات، أهيب بهم أن يقفوا إلى جانبه وألا يطلبوا منه ما لا يقدر عليه وأن يكونوا كما كانوا دائماً سنداً وعوناً ورفيقاً وشقيقاً ، فمصر قوية بدورها الإقليمي ووحدتها الوطنية وبنائها الداخلي .

خامساً: إن محاولات استهداف مصر لا تخفى على أحد والكل يدرك الحكمة القديمة (لقد أُكلت يوم أن أُكل الثور الأبيض)، فيجب النظر إلى مستقبل المنطقة من خلال مستقبل مصر الدولة المركزية المحورية التي تعانق فيها الزمان والمكان والسكان فأصبحت بحق كنانة الله في أرضه، المحروسة دائماً ، أم الدنيا بفضل من حولها وبدعم أشقائها .

. .هذه زفرات من القلب وعبارات صادقة راودتني وأنا أحضر احتفال تنصيب البابا الجديد حيث اختلطت أمامي بوضوح دموع البابا بأحزان الوطن . . فالكل في واحد .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"