دينامية دولية للهدم لا للسلام

03:33 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود الريماوي

يحتشد عدد كبير من زعماء العالم ومسؤوليه في المؤتمر الدولي للأمن في ميونيخ كل عام، وكما حدث خلال الأيام الثلاثة الماضية، حيث انعقدت الدورة 56 لهذا المؤتمر الحافل الذي يجمع قيادات من الشرق والغرب، دون أن يفقد طابعه كمحفل معني بالدرجة الأولى بالأمن الأوروبي.
غير أن العالم بات شديد التشابك وسريع التواصل؛ إذ تتاخم القارة الأوروبية الأطلسي وإفريقيا وآسيا. وانعقاد المؤتمر في ألمانيا أمر له دلالات لا تخفى، فهذا البلد دفع أثماناً كبيرة للصعود النازي وللصراع المحتدم بين الشرق والغرب إبان الحرب الكونية الباردة، وفي الوقت نفسه فإن ألمانيا تمثل قصة نجاح هائلة، فقد باتت في عداد الدول الصناعية خلال نحو ثلاثة عقود من خروجها من الحرب العالمية الثانية، وقامت بتوحيد شطريها مع مطلع تسعينات القرن الماضي، وباتت تمثل نموذجاً لنهج مستقل ينأى عن الحروب والصراعات، ويلعب دور الوسيط الموثوق في نزاعات إقليمية.
ومع هذا، فإن الأصوات ما زالت ترتفع في ألمانيا بضرورة تعزيز قوتها وأدوارها العسكرية بما يتناسب مع قوتها السياسية والصناعية.
وبعيداً عن الشأن الألماني المحض، فقد جاءت كلمة الرئيس الألماني فرانك شتاينماير في افتتاح المؤتمر يوم الجمعة الماضي 14 فبراير الجاري، لتدلل على المكانة المستقلة لهذا البلد، وعلى تمتعه بشعور المسؤولية المرفوقة بنزعة نقدية للوضع الدولي، وضمن هذا المنطلق قال الرئيس الألماني بكلمات لا يعوزها الوضوح: «إننا نشهد اليوم ديناميكية للهدم بشكل متزايد في السياسة العالمية، وعاماً بعد عام نبتعد بأنفسنا عن هدف التعاون الدولي الرامي إلى خلق عالم أكثر سلماً»؛ بل إن شتاينماير لم يتوان عن التنديد بطريقة القوى الدولية الكبرى الثلاث في التعامل مع الشؤون الدولية. وضرب مثلاً على ذلك بطرح مفهوم المجتمع الدولي جانباً، مشيراً إلى أن «أقرب حلفائنا وهي الولايات المتحدة في عهد الإدارة الحالية، ترفض فكرة المجتمع الدولي».
ولا شك في أنها درجة عالية من النقد تصدر عن مسؤول دولي رفيع، تتمتع بلاده باحترام كبير. فقد عزا تراجع الحس بالمسؤولية عن السلم والأمن الدوليين، إلى العودة نحو المصالح الوطنية فهي التي «تقود إلى الطريق المسدود» حسب وصفه. والحال أن الدول الكبرى الثلاث (أمريكا والصين وروسيا)، تضع مصالحها القومية فوق كل اعتبار، في حين تبدي أقل اهتمام بمسألة حل النزاعات وإحلال السلم والأمن؛ بل إنه يجري الاستثمار السياسي والاقتصادي في الأزمات من طرف الدول الكبرى، أو يجري تجاهل هذه النزاعات.
وفي السياق نفسه، فإن القوى الكبرى باتت تفتقد لأي خطاب سياسي دولي يتعلق بمصير البشرية، أو ما كان يعرف في الماضي بحوار الشمال والجنوب أو بحقوق ومصالح الدول والشعوب الضعيفة والمستضعفة؛ إذ يتم النظر إلى هذه الدول على أنها إما ساحة ممكنة لبسط النفوذ، أو مصدر للأيدي العاملة الرخيصة.
وفي ظل تراجع الشعور بالمسؤولية الدولية من طرف القوى الكبرى، فإنه لم يعد مستغرباً أن تُجمع تقارير شتى على أن عالمنا في عامنا الجاري 2020 مهدد بإشعال مزيد من النزاعات أو استدامة ما هو قائم منها، بما يشمل قارات إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وحتى أوروبا، ومن استمرار النزاع المديد في أفغانستان إلى فنزويلا والعراق وسوريا وليبيا، وأوكرانيا وإيران وكوريا الشمالية، واليمن وإثيوبيا وكشمير، وسوى هذه البلدان.
فالنزاعات باتت منفلتة من كل عقال، وتتخذ القوى الكبرى مواقف تتراوح بين الانغماس المباشر في الأزمات، وبين اتخاذ مواقف سلبية يكتفي أصحابها بالمراقبة في انتظار استنزاف المتنازعين ونشوء معادلات جديدة على الأرض.
ومما يثير علامات الاستغراب أن النزاعات إبان الحرب الكونية الباردة في القرن الماضي، كانت قابلة للسيطرة عليها مع تفاهم القوتين الكبيرتين آنذاك على تقاسم مناطق النفوذ، أما في الألفية الثالثة ومع التعددية القطبية فقد جرت مراجعة لمفاهيم المصالح وأكلافها، كما تم التسابق إلى اكتساب مناطق النفوذ بأكثر الصور شراسة ونأياً عن أحكام القانون الدولي، وذلك لتفادي أي قيد أو ضابط معنوي على تحركاتها، بينما تتراجع مكانة الأمم المتحدة كمرجعية ملزمة وكعنوان للشرعية، وتتحول إلى جمعية إغاثية وقبعات زرقاء تنتظر انتهاء النزاعات وموافقة الدول الكبرى على ضبط النزاعات.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"