رهانات الدبلوماسية الألمانية

03:11 صباحا
قراءة 3 دقائق
الحسين الزاوي

انتقلت في الآونة الأخيرة ألمانيا من قوة اقتصادية مُنكفئة على نفسها إلى قوة سياسية ودبلوماسية متوثبة ونشطة في ظرف إقليمي يميِّزه «البريكست» البريطاني، وفي سياق دولي بات يتطوّر اقتصادياً وجيوسياسياً ضمن محور شبه مغلق تسيطر عليه الصين وروسيا من جهة، والولايات المتحدة الأمريكية من جهة أخرى، بعيداً عن تأثير الدول الأوروبية الكبرى، لاسيما فرنسا والمملكة المتحدة القوتان الاستعماريتان السابقتان.
وإذا كان من المبكر جداً الحكم على مدى فاعلية التحركات الألمانية على مستوى سياستها الخارجية، فإن وزيرة الدفاع الألمانية، تؤكد أن النشاط السياسي الدولي لبلادها يتيح لها الفرصة؛ للتعبير عن نفسها؛ بوصفها قوة دبلوماسية، وبالتالي فإن تنظيمها لاجتماع بشأن الأزمة الليبية يمكن النظر إليه على أنه يمثل تقدماً كبيراً، ويتوجب من خلاله على ألمانيا أن تلعب دور المحرّك.
ويجدر بنا أن نذكّر في هذه العجالة، أن ألمانيا ظلت منذ تقسيمها غداة نهاية الحرب العالمية الثانية تتبنى سياسة خارجية خجولة، استمرت حتى بعد استعادتها لوحدتها سنة 1989، وقد لعب تاريخها العسكري العنيف دوراً بارزاً في دفعها إلى الانسحاب من الساحة الدولية، وإلى البحث عن تطوير نفسها اقتصادياً واجتماعياً، وإلى ممارسة دور الوصيف الدبلوماسي لكل من الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا على مستوى العديد من الملفات الدولية طيلة عقود من الزمن؛ قبل أن تبدأ بوادر التحول على مستوى سياستها الخارجية، في التبلور بشكل ملفت للنظر في عهد المستشار غيرهاد شرودر الذي كان لديه ما يكفي من الشجاعة؛ للوقوف في وجه الغزو الأنجلو-أمريكي للعراق سنة 2003؛ من خلال التحالف مع الرئيس الفرنسي جاك شيراك الذي لعب وزير خارجيته دومينيك دوفيلبان، دوراً نشطاً في إفشال سعي واشنطن للحصول على تفويض أممي؛ من أجل التدخل العسكري في العراق.
ونستطيع القول في هذا السياق إنه لا يمكن للاتحاد الأوروبي أن يلعب دوراً مؤثراً في الساحة الدولية راهناً ومستقبلاً، دون الاستناد على القوة الاقتصادية والسياسية لألمانيا، ومن هنا يمكننا النظر إلى الدور المحوري للدبلوماسية الألمانية التي تملك إمكانات حقيقية للنجاح تفوق تلك التي تمتلكها كل من فرنسا وبريطانيا وبخاصة في الملفات العربية التي ينظر فيها إلى دور باريس ولندن بكثير من الشك والارتياب، بالنظر إلى الأسباب التاريخية والجيوسياسية التي يعرفها الجميع، لاسيما بعد الدور الكبير الذي لعبته باريس ولندن في إشاعة الفوضى في ليبيا بحسب التصريحات التي أطلقها الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما.
وليس هناك أدنى شك لدى معظم المتابعين لشؤون السياسة الدولية، في أن العالم وليس فقط أوروبا بحاجة إلى دور أكثر تأثيراً للدبلوماسية الألمانية؛ من أجل تحقيق شيء من التوازن الإيجابي في سياق لعبة المحاور التي تهيمن على المشهد الدولي، والذي تستطيع من خلاله برلين أن تعيد لروسيا هويتها الأوروبية، وتحُول دون سقوطها الكامل بين ذراعي التنين الصيني، وصولاً إلى المساهمة في تأسيس نظام عالمي جديد أكثر توازناً، وأقل استقطاباً بين أقصى الشرق وأقصى الغرب؛ ويمكن بالتالي للقوة الناعمة لألمانيا أن تحقّق على المستوى العالمي ما لم تحققه القوة المفرطة للولايات المتحدة الأمريكية التي فشلت في تجسيد مجمل أهدافها، لاسيما في العراق وأفغانستان؛ كما أن أوروبا بحاجة الآن إلى ألمانيا؛ من أجل كبح جماح الاندفاع التركي غير المسبوق على مستوى المنطقة العربية.
وبموازاة هذا التفاؤل الكبير الذي عبّر عنه الكثير من المراقبين، هناك من يذهب إلى القول إن الصحوة الدبلوماسية لألمانيا جاءت متأخرة، وتتزامن مع اقتراب خروج أنجيلا ميركل من معترك السياسية سنة 2021، ودخول ألمانيا في مرحلة جديدة لم تتضح ملامحها بعد.
وعلاوة على هذا الغموض الذي يكتنف التحولات السياسية المقبلة في ألمانيا، هناك من يرى أن برلين وعوضاً عن أن تكون دافعاً حقيقياً للدبلوماسية الأوروبية، فإنها كثيراً ما تتبنى مواقف مترددة، وتدفع بنظرائها الأوروبيين إلى التراجع أمام الضغوط والابتزاز الأمريكي، كما حدث مؤخراً بشأن الملف الإيراني؛ عندما سارعت ألمانيا إلى الرضوخ للتهديدات الأمريكية بفرض 25 في المئة من الضرائب على وارداتها من السيارات الأوروبية.
وأخيراً، فإنه وبصرف النظر عن التقييمات الإيجابية والسلبية لرهانات الدبلوماسية الألمانية، فإن برلين لن تكون مستقبلاً ظلاً باهتاً لسياسة الدول الغربية الكبرى، وستكون لها كلمتها الحاسمة في بلورة، الأجندات الدولية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"