روسيا بين القوتين الناعمة والخشنة

04:31 صباحا
قراءة 4 دقائق
الحسين الزاوي

شهدت العلاقات الدولية تحولات كبرى في أقل من 30 سنة، حيث انتقلت من الآحادية القطبية بعد سقوط جدار برلين، إلى غياب القطبية مع بناء جدار جديد في أوكرانيا، يفصل ما بين الشرق والغرب.
وقد مثلت روسيا المحور الأساسي لكل التحولات الكبرى التي عرفتها الجغرافيا السياسية العالمية في هذه المرحلة التاريخية الشديدة الدقة والتعقيد. وتطرح كل هذه التحولات أسئلة محورية، بشأن القدرات الحقيقية التي باتت تمتلكها روسيا على مستوى ما يسمى في لغة السياسة بالقوة الناعمة والقوة الخشنة، وخاصة منذ سنة 2000، التي شكلت لحظة انعطاف رئيسية على مستوى استعادة روسيا لمكانتها الدولية، بعد حدث انهيار الاتحاد السوفييتي الذي قرأته الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، على أنه يمثل استسلاماً روسياً كاملاً لمشروع العولمة الأمريكية.
ويشير المتابعون للشأن الروسي، إلى أن دخول موسكو إلى معترك ما يسمى بالقوة الناعمة جاء متأخراً بعض الشيء، مقارنة بالدول الغربية، وقد مثل حدث تنظيمها لكأس العالم، قمة ما وصلت إليه هذه القوة الناعمة من تطور، وهو ما عبّر عنه الصحفي الفرنسي فليب لابرو بقوله: «إن بوتين، هو الفائز الحقيقي بكأس العالم 2018».
وبالرغم من كل الجهود التي بذلتها روسيا في هذا المجال، الذي كانت تسميه سابقاً بالدبلوماسية الثقافية، إلا أنها لم تستخدم مصطلح القوة الناعمة في وثائقها الرسمية، إلا في مرحلة حكم الرئيس ديمتري مدفيديف سنة 2010، عندما صادق هذا الأخير على برنامج يهدف إلى تبنّي استراتيجية جديدة على مستوى السياسة الخارجية الروسية، ويعتمد بشكل كبير على عناصر هذه القوة التي تهيمن عليها دول مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة، وقد جرى التأكيد بعد ذلك على الشيء نفسه في برنامج السياسة الخارجية الروسية، الصادر سنة 2013.
ويمكن القول إن روسيا استطاعت بفضل دبلوماسيتها النشطة، أن تقلص إلى حد كبير آثار الحصار الذي ضربته الدول الغربية عليها، بعد ضمّها شبه جزيرة القرم إلى سيادتها، وذلك باعتمادها بشكل رئيس على عناصر أيديولوجية راسخة، ومغايرة تماماً للأيديولوجيا الشيوعية، حيث نجحت موسكو في استعادة نفوذها السياسي في القارة الأوروبية، من خلال دعمها الذكي للأحزاب القومية والشعبوية، مستغلة في ذلك أزمة الهوية التي تعيشها المجتمعات الأوروبية، نتيجة تراجع قيم ثقافة الاختلاف والعيش المشترك، وللفشل الواضح الذي عرفته سياسات إدماج المهاجرين، إضافة إلى موجات نزوح اللاجئين التي باتت تهدد الاتحاد الأوروبي بالتفكك والانفجار من الداخل.
كما أن وسائل الإعلام الروسية على الرغم من تواضع تجربتها إلا أن بعضها، مثل قناة «روسيا اليوم» ووكالة «سبوتنيك» للأنباء، استطاعت أن تقض مضاجع دول كبرى كفرنسا وبريطانيا في عدة مناسبات. وفضلاً عن كل ذلك، فإن شخصية الرئيس الروسي تكاد أن تتحول في المرحلة الراهنة، إلى أيقونة سياسية في العديد من الأوساط الشعبية الأوروبية، التي تحن إلى زمن الزعامات الكاريزماتية.
أما على مستوى القوة الخشنة، فإن روسيا وجدت نفسها مضطرة للدفاع عن نفسها في مواجهة مساعي حلف الناتو للتمدد شرقاً نحو الجمهوريات السوفييتية السابقة في مناسبتين رئيسيتين، حيث قامت موسكو باستخدام القوة العسكرية سنة 2008 من أجل حماية جمهورية أوسيتيا الجنوبية الانفصالية، من قوات الحكومة الجورجية، وإلى التدخل شرقي أوكرانيا، من أجل حماية الأوكرانيين الموالين لها، كما مثلت سوريا مؤخراً أبرز محطة نزال جيوسياسي بين روسيا وخصومها، على المستويين الدولي والإقليمي.
بيد أن هذه القوة العسكرية الروسية على الرغم من تسارع وتيرة نموّها وتأثيرها في المسرح العالمي، إلا أن الباحث الأمريكي جورج فريدمان، يقول: «إن هذه القوة العسكرية ما زالت متواضعة، وإن روسيا تريد أن تجعلنا نعتقد أنها بصدد التحوّل إلى اتحاد سوفييتي جديد، والواقع أنها تمثل ظلاً لذاتها وهي مشلولة بسبب تبعيتها للبترول، وبسبب الفساد الذي يهددها، وذلك فضلاً عن مجموعة أخرى من المشاكل، وهي ليست قادرة حتى على اجتياح دولة مثل أوكرانيا، أما تدخلها في سوريا فهو مجرد حملة علاقات عامة، لكي تثبت للعالم أنها موجودة».
هذه الملاحظات التي عبّر عنها فريدمان مهمة من الناحية التقنية، لكنها تُفصح في اعتقادنا عن نزعة استعلاء أمريكية واضحة، تغفل النظر إلى منطق الواقع وتسقط من حساباتها ما يسميه برتراند بادي بمصطلح «ضعف القوة»، الذي يرمز إلى ظاهرة القوة عندما تبلغ مستويات عالية من التدمير، وتصبح غير قابلة للتوظيف وقد تفشل في تحقيق أهدافها، كما حدث في العراق وأفغانستان.
من الواضح أن القوة الناعمة لروسيا على الرغم من تواضعها مقارنة بالقوى الأخرى ذات الإشعاع الثقافي والعلمي والدبلوماسي الهائل، إلا أنها تسير بخطوات سريعة وواثقة، بدأت تقلق الغرب الذي اعترف الكثير من إعلاميّيه أن موسكو نجحت فعلاً في تحويل مناسبة تنظيم كأس العالم، إلى فرصة ذهبية لإبراز عناصر الحضارة والثقافة الروسيتين، اللتين ما زالتا مجهولتين لدى قطاع واسع من سكان المعمورة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"