سنوات الفرص القادمة

03:57 صباحا
قراءة 4 دقائق
تحدثنا طويلاً عن "سنوات الفرص الضائعة" وكيف كان غياب الرؤية وقصر النظر مع انعدام القدرة على الإمساك بالفرصة المتاحة من أجل المصلحة العليا للبلاد وتعظيم شأن الدولة سبباً في ذلك عبر السنين الماضية، وقد حان الوقت لكي نخرج من عباءة ما مضى ولا نبقى في "جلباب" عصرٍ ولى بعد أن انتهى عمره الافتراضي . إننا نبشر بمستقبلٍ مختلف عمّا نحن عليه، مستقبل واعد إذا ما خلصت النوايا وصدقت العزائم يقوم على العمل الدؤوب والجهد المخلص حتى تلحق مصر بالأمم الحديثة وتخرج من النفق المظلم الذي وضعتها الأقدار فيه، إن "الفرص القادمة" يجب أن تكون تعويضًا عن "الفرص الضائعة" ومقدمةً لغاياتٍ محددة وأهدافٍ واضحة، إن ذلك في ظني يعتمد على المؤشرات الآتية:
أولاً: يدهش كثير من الخبراء والمراقبين من التركيبة المصرية لبلدٍ فيه كل مقومات التقدم وعوامل النهضة ورغم ذلك فإنه يتجمد أحيانًا بل ويتراجع أحيانًا أخرى، ويظل المرء في دهشة مستمرة أمام بلدٍ لديه من الموارد البشرية والطبيعية ما يدفعه دوماً إلى الأمام، إن مصر قد تعرضت لضغوطٍ عبر تاريخها الطويل وحكمت عليها الجغرافيا أن تكون حضارة ملتقى وبلدًا جاذبًا للهجرات البشرية بل وملاذًا لأصحاب القضايا العادلة والمظلومين في كل مكان، ومع ذلك فإن هذا البلد العظيم تحيطه مشكلاتٌ بغير حدود ويتعرض لضغوط دون نهاية فضلاَ عن استهداف إقليمي ودولي يحاول تطويق "مصر" مدفوعًا بغيرة مكتومة وحقد لا مبرر له، إنني لا أقول ذلك جزافًا ولكن استقراء التاريخ المصري يجعلنا على يقين من صحة ما نقول .
ثانياً: إن لدى مصر أكبر مستودع بشري معاصر في المنطقة، إذ إن الله قد منحنا عبقرية الزمان والمكان وأيضا عبقرية السكان لشعبٍ ذكي يتأقلم بسرعة مع الظروف المحيطة ويرحب بالأجنبي ترحيباً غريزياً ويلقي حبال المودة والمحبة لكل من يلتقطها، إنه البلد الذي علم الآخرين وطبب أشقاءه وأسهم في البنية الأساسية لكل من استدعاه عربياً وإفريقياً بمنطقٍ عقلانيٍ وخلفية إنسانية عاطفية، كما كان "الجيش المصري" هو رأس الحربة في الدفاع عن الأرض العربية والمقدسات الإسلامية، ولماذا نذهب بعيدًا إنه الشعب الذي بنى "الأهرامات" وحفر "قناة السويس" وشيد "السد العالي" وهاهو يعود إلى قناته من جديد لتعظيم النفع منها وتحديث دورها في الربط بين الشرق والغرب، إنه شعب العجائب وصانع المعجزات يطل على شاطئين طويلين لبحرين مفتوحين ولديه مقوماتٌ سياحية لا تدانيها مقومات دولة أخرى فضلاً عن أنه بلد زراعي عريق فلديه أيضًا العوامل المساعدة على قيام الصناعة الوطنية إذ إن العنصر البشري المصري متميز دائمًا فضلاً عن الوضع الجغرافي بما في ذلك المناخ والتربة والتنوع البيئي للدولة المصرية، ففيها مجتمعات زراعية وأخرى صناعية وثالثة ساحلية ورابعة صحراوية بما يعطيها درجة عالية من التنوع الذي يجعلها قادرة على النهوض في كل الأحوال، كما أنها تنتمي إلى "إقليم البحر المتوسط" بمناخه المعتدل وموقعه الجذاب وتنتمي أيضًا إلى القارة الإفريقية الأم التي ينساب منها النيل مصدر الحياة لمصر والمصريين، كما أنها عربية اللسان تحمل سبيكة ثقافية متميزة فضلاً عن انتماءٍ له خصوصيته مع العالم الإسلامي، ولاشك أن تلك التعددية الحضارية تجعل من هذا الوطن بلدًا يحتوي الفرص القادمة بعدما فقد الكثير في عصورٍ سابقة نتيجة تجريف الكفاءات واستبعاد أصحاب القدرات وحرمان مصر من طاقتها البشرية الحقيقية .
ثالثا: إن نجاح "مصر" في تحقيق التوظيف الأمثل لمواردها البشرية والطبيعية هو عنصر حاكم في تحديد صورة المستقبل والتركيز على "الفرص القادمة" والتمكين للعقل المعاصر الذي يعي التاريخ ويدرك الحاضر ويؤمن بالمستقبل، إذ إن إهدار الموارد والتفريط فيما تملكه الكنانة طبيعياً وبشرياً كان ولايزال واحدًا من أسباب تخلفها وضعف رؤيتها، وإذا كنّا نمر الآن بمرحلة تحول مهمة في مسيرة البلاد والعباد فإننا نتطلع إلى قرارٍ سياسي رشيد ينطلق من أسس موضوعية لا يحكمه الهوى ولا تحركه المحاباة لأنه يعتمد على قاعدة راسخة من العدالة الاجتماعية للقضاء على الصراعات الطبقية والطائفية وتؤدي إلى مصالحة شاملة بين الأجيال المختلفة .
رابعاً: إن التدريب المهني واستعادة الحرف المصرية التقليدية لمكانتها القديمة هما أمران لازمان للولوج إلى طريق المستقبل، ولعلي أتذكر الآن أنه ذات يوم في منتصف ثمانينات القرن الماضي أن جاءني في مكتبي بمؤسسة الرئاسة القنصل العام لدولة كوريا الجنوبية طالباً رفع مستوى التمثيل بين الدولتين إلى سفارة خصوصاً وأن "الاتحاد السوفييتي" السابق وجمهورية الصين الشعبية قد اعترفا بالفعل بجمهورية كوريا الجنوبية وأصبحت العلاقات معهما على مستوى السفراء ولن تكون مصر ملكية أكثر من الملك . وأضاف القنصل العام: (أنه عند قبولكم لمطلبنا فإننا نتقدم لبلادكم بمنحةٍ مالية مقدارها 500 مليون دولار على شكل قرضٍ سعر فائدته واحد من عشرة في المئة وذلك حتى تمر المنحة من البرلمان الكوري الجنوبي، كما أننا نريد منكم قطعة أرضٍ كبيرة ولتكن ألف فدان في الصحراء نقيم عليها سويًا أكبر مركزٍ للتدريب المهني في الشرق الأوسط وربما في العالم كله لتصدير العمالة المدربة من مصر إلى العالمين العربي والإفريقي في مختلف التخصصات الفنية والفروع الحرفية، لأن العامل المصري مقبول في الخارج بحكم الدين واللغة أما الكوري فليس لديه هاتان الميزتان، وسوف يكون لدولة "كوريا الجنوبية" نسبة محددة من عائد العمالة المصرية في الخارج، وللدولة المصرية جزءٌ آخر واضعين في الاعتبار أننا سوف ننهي بذلك مشكلة البطالة تمامًا في "مصر" وندفع الشباب إلى ميادين العمل وفي ذلك دعمٌ للمستوى المعيشي ونوعية الحياة ودرجة الاستقرار السياسي في بلدكم العربي الإفريقي الكبير "مصر") ولكن رد الفعل المصري كان واحدًا من أكثر "الفرص الضائعة" إذ تم رفض العرض الكوري الجنوبي بدعوى مجاملة دولة كوريا الشمالية التي ساعدتنا بقطع غيار الطائرات في حرب ،1973 والغريب أننا أقمنا العلاقات الدبلوماسية الكاملة بعد ذلك بسنوات قليلة مع كوريا الجنوبية دون مقابل!
. . دعنا نكن صرحاء لنقول بكل وضوح أن "سنوات الفرص القادمة" سوف يرتبط النجاح فيها والإنجاز خلالها بتطور العملية التعليمية والاتجاه نحو "تحديث التعليم" والتركيز على البحث العلمي فالتعليم هو بوابة العصر وهو الطريق الوحيد للدخول إلى المستقبل الأفضل لوطنٍ عانى كثيرًا وشعبٍ ضحى طويلاً وحان الوقت كي يستريح!
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"