شيطان لا تعرفه أمريكا

03:09 صباحا
قراءة 3 دقائق
عاصم عبد الخالق

يلخص الأمريكيون المطالبون بابتعاد بلادهم عن الشرق الأوسط، بقضاياه وأزماته وحروبه، موقفهم بعبارة موجزة تقول إن ما هو جيد للشرق الأوسط قد لا يكون جيداً لأمريكا. يقصدون أن أطراف النزاع الإقليمية تتمسك عادة بوجود أمريكي سياسي وعسكري مكثف ينتهي في أحيان كثيرة بالتورط المباشر في الحروب والصراعات الداخلية. وتلك النتيجة التي تفيد أطرافاً في المنطقة، قد لا تكون في صالح الولايات المتحدة بل وبالاً عليها في أحيان كثيرة.
نفس الرأي عبرت عنه وشرحته باستفاضة الدراسة القيمة التي أعدها معهد بروكنجز الشهير للأبحاث السياسية في واشنطن، وقد عرضنا جانباً منها في الأسبوعين الماضيين ونختتم قراءتنا لها في هذه السطور. تدافع الدراسة بقوة عن ابتعاد أمريكا بقدر الإمكان عن أزمات المنطقة، وهو نفس الموقف الذي بات من الواضح أن الرئيس دونالد ترامب، يتبناه، وتجلى أخيراً في قراره بالانسحاب من سوريا. وتعتبر الدراسة أن الشرق الأوسط بمشاكله ونفطه وحروبه لم يعد مهماً كما كان بالنسبة للاستراتيجية الأمريكية للأمن القومي ببعدها الكوني. ومن الواضح أيضاً أن ترامب، يشاركها نفس الرأي وقد عبر عن ذلك صراحة قبل أسابيع.
من هنا تصيغ الدراسة العبارة التي بدأنا بها هذه المقالة بصورة عكسية تفيد نفس المعنى وتقول إن ما هو جيد لأمريكا، أي الابتعاد عن المنطقة، قد لا يكون جيداً للشرق الأوسط الذي تتمسك معظم دوله بوجود ودور أمريكيين كبيرين وترى في ذلك مصلحة لها.
تعبر الدراسة في الحقيقية عن رأي يكتسب تأييداً متزايداً بين النخبة الأمريكية. ويعتبر أن التدخل المكثف في شؤون الشرق الأوسط خلال العقدين الماضيين كان مؤلماً وفظيعاً لأمريكا وللمنطقة على السواء. ولكنه كما تصفه الدراسة كان الشيطان الذي يعرفه صناع القرار في واشنطن واعتادوا على شروره وتكيفوا مع عواقبه وكلفته الباهظة. أما الابتعاد عن المنطقة أو الانسحاب منها فهو الشيطان الذي لا تعرفه واشنطن حتى الآن، ولذلك فإن كثيرين يقاومونه غريزياً لمجرد الجهل بتبعاته.
ولكن في الحالتين، أي التدخل أو الابتعاد سيبقى هناك شيطان وهو بؤرة للشر. غير أن الانسحاب هو أهون الشرين وأقلهما إيذاء وفظاعة، وفقاً لما تقول الدراسة. لذلك يبادر المعهد بتحديد مجموعة من التوصيات والتصورات التي ينبغي تنفيذها لجعل الابتعاد ممكناً ولتلافي أضراره.
أهم ما يوصي به هو إبلاغ بلدان المنطقة، بأنه يتعين عليها من الآن فصاعداً تحمل القدر الأكبر من أعباء الدفاع عن نفسها، وتحمل مسؤولية إدارة وحل مشاكلها بنفسها. ويجب أن يكون واضحاً أن أمريكا هي من سيقرر متى وبأي قدر ستستخدم القوة، ومتى ترفض. ولا يجب أن يورطها أحد في حروب أو مواجهات. لهذا السبب يرى المعهد أن عدم تزويد المعارضة السورية بأسلحة متطورة كان قراراً صائباً تجنبت أمريكا بفضله استدراجها إلى الحرب السورية.
توصي الدراسة كذلك بأهمية إقناع دول المنطقة بأن اختلاف أمريكا معها وارد. وأن سياسات أمريكا قد لا تتوافق ولا تتفق بالضرورة مع سياسات هذه الدول. كما يجب أن يكون واضحاً أن أمريكا يمكن أن تستهدف الإرهابيين في هذه الدول دون أن تتورط في حروبها وصراعاتها الداخلية.
مرة أخرى توضح الدراسة ما سبق أن أشرنا إليه وهو أن الدعوة لتقليص الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة، والقول بتراجع أهميتها بالنسبة لواشنطن لا تعني أن أمريكا ستترك الشرق الأوسط بصورة شاملة، أو أنها ستقدمه هدية مجانية لروسيا والصين.
ولكن المطلوب من وجهة نظر أصحاب هذا الرأي هو تدخل محدود ومحسوب يحقق مصالح أمريكا أولاً، ويخفف عنها الأعباء التي تحملتها في الماضي. خلاصة ما تقوله الدراسة هو «أن زمن التورط الشامل والواسع والمجاني انتهى، وحان الوقت لتبدأ أمريكا رحلة التطهر من أوزار الشرق الأوسط».

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"