صانعو السياسة وعدم الاتساق الزمني

01:31 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. عبد العظيم محمود حنفي *

عدم الاتساق الزمني هو فكرة تفسر كيف يمكن لصانعي السياسة حسني النية أن يضعوا سياسات سيئة على الرغم من ذلك. في عام 1977 بين إدوارد سي. بريسكوت، وفين ي. كيدلاند (حصلا على جائزة نوبل عام 2004 جزئياً على عملهما عن عدم الاتساق الزمني)، أن الحكومة التي تصوغ خطة سياسية طويلة الأجل (نقدية أو مالية)، ربما تغير خطتها فيما بعد، إذا توافرت لها الفرصة لتعكس تغير الظروف، ثم بين الاقتصادي جويلرمو كالفو، أنه من المرجح أن تتخذ الحكومة هذه القرارات التقديرية غير المتسقة حتى على الرغم من أن للحكومة الأفضليات نفسها تماماً، مثلما للجمهور، والنقطة المهمة هنا، أن صانعي السياسة بمحاولتهم اتخاذ أفضل القرارات التقديرية في أي وقت من الأوقات «ليعيدوا تحقيق الوضع الأمثل»، كما يقول الاقتصاديون، يمكن أن ينقضوا وعودهم السياسية طويلة الأجل، مما يتسبب في فقدان مصداقيتهم؛ ذلك أنه بمجرد انحرافهم عن التزامهم مثلاً باستراتيجية لمحاربة التضخم مهما كانت وجاهة مبرراتهم، لا يعود الجمهور يثق بهم.

إن توقعات الناس تتغير، وعندئذ يعملون على حماية أنفسهم بالمطالبة بأسعار فائدة أعلى توقعاً لحدوث تضخم أعلى. ويضطر ذلك صانعي السياسة إلى اتخاذ مزيد من الخطوات التي تؤدى للهزيمة الذاتية التي يمكن أن تقوض السياسة طويلة الأجل التي كانت جيدة قبل ذلك. إن تقويض استراتيجية صناع السياسة طويلة الأجل، سببها في الأساس أن المسؤول الذي يتخذ القرار اليوم يواجه ظروفاً مختلفة عما كانت عليه عندما قدم الوعد في البداية. وليس عدم الاتساق الزمني بتأثيره في التوقعات والمصداقية قضية أساسية في الاقتصادات المتقدمة كما يقول كالفو، ولكن معظم الاقتصاديين لابد أن يتفقوا على أنه أمر ضروري بالنسبة للأسواق الناهضة، وأنه في الواقع «يفسر السبب في أن البلدان تعاني تضخماً جامحاً».

ونتيجة للعمل النظري بشأن عدم الاتساق الزمني، قللت بلدان كثيرة قدر حرية التصرف المسموح بها لصناع السياسة، مما جعل البنوك المركزية أكثر استقلالاً عن السياسيين، وتتبنى أهدافاً للتضخم وغايات للاستقرار معلنة على الملأ ويصعب الانحراف عنها.

وتمثل كفاءة البنوك المركزية عاملاً رئيسياً في التحليل، فكثير من المحللين الاقتصاديين يرون أن الكساد الكبير في ثلاثينات القرن الماضي، حدث نتيجة لعدم كفاءة البنوك المركزية، ويفصلون ذلك بأنهم وجدوا انعكاسات مذهلة للكساد الكبير عند إجراء بحوثهم فيما وصفوه «معجزة العنقاء»؛ أي القدرة التي تتعذر مقاومتها في ما يبدو للاقتصادات المتخلفة على «النهوض من بين رماد انهيار مثير في الإنتاج بسبب حدوث توقف مفاجئ». وقد وجدوا أوجه تماثل قوية بين الظروف المحيطة بالأزمات الحديثة في الأسواق الناهضة والكساد الكبير، فقد عادت الاقتصادات المدمرة إلى مستوى إنتاجها قبل الانهيار في بعض السنين، ولكنها لم تعد لمسار النمو الذي كانت عليه قبل الأزمة، وفي هذا السياق يرون أن البنوك المركزية في اقتصادات الأسواق الناهضة عاجزة عن المساعدة، وتجعل التقلبات الكبيرة في أسعار الفائدة التي تصحب الاضطراب عادة، الأدوات المعيارية التدريجية للسياسة النقدية غير فعالة. ونظراً لأن الأسواق المالية المتخلفة تضطر الشركات والحكومات إلى الاقتراض بكثافة بالدولار والعملات الأجنبية الأخرى، فإن قدرة البنوك المركزية على إبقاء النظم قادرة على الوفاء بالتزاماتها إبان الأزمات عن طريق تحولها إلى مقرض الملاذ الأخير، هي قدرة محدودة.

كما ينتاب البلدان عادة خوف جدي من تعويم عملاتها؛ لأن تخفيض قيمة العملة بصورة كبيرة يدمر الشركات التي تدين بالدولار، لكنها تحقق مكاسبها بالعملة المحلية. وهكذا فإن جذور الأزمات في الأسواق الناهضة تكمن في عجز البنوك المركزية.

* أكاديمي مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​كاتب مصري - أستاذ للعلوم السياسية والاقتصادية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"