صرخة عربي غاضب

02:59 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. عبدالعزيز المقالح

كلنا ذلك العربي الغاضب الذي لا يرضيه ما يرى ولا يعجبه ما يسمع، لكن للغضب حدوداً لا يتعداها حتى لا يخرج عن حدوده الإيجابية ويتحول إلى صراخ ضار كما هو الحال مع هذا الكاتب الغاضب الذي دفعني مقاله المنشور في إحدى الصحف العربية إلى التعقيب على بعض ما جاء فيه، وللأمانة لا أدري اسم الصحيفة ولا اسم كاتب المقال، ولا تاريخ النشر وكل ما أعرفه أن صديقاً بعث إليَّ بالمقال عن طريق «الإيميل» بعد أن وضع خطوطاً حمراً على بعض الفقرات، ومنها الفقرة الآتية، وهي الأخيرة في المقال المشار إليه: «نحن في حاجة إلى لغة مختلفة تخرجنا من المعجم السياسي القديم، لقد جربنا الخروج من قدمنا ففشلنا، وما من أمل سوى في أن يتولى المجتمع الدولي صون ما تبقى من إنسانيتنا لئلاّ نستمر في إنفاق أموالنا في تشييد المقابر التي تخلدنا»!!
تلك هي الفقرة المزعجة والمؤلمة والتي يوحي سياقها بأن كاتبها يعيش لحظة يأس من إمكانية إصلاح أوضاعنا بأيدينا أو بأقدامنا، وأن إصلاح ما فسد في حياتنا لن يتم إلاَّ عن طريق الآخر المشار إليه هنا بالمجتمع الدولي، وهي دعوة صريحة وغير وطنية ولا موضوعية إلى أن يتولى الخارج شؤوننا ليتمكن من القضاء على ما تبقى من شعور بالحرية والكرامة، وكأن كاتب المقال وهذه الفقرة منه خاصة لم يدرك بعد أن مشكلتنا وما نعانيه الآن ليس سوى صناعة خارجية تتم بأيدينا نحن، وأن عبارة المجتمع الدولي تعبير مطّاط ومؤداه الحقيقي أن تتولى القوى النافذة في العالم إصلاح ما أفسدته هي وعملت على توطينه وتجسيده، وحاولت ولا تزال تحاول أن يبقى هذا هو حالنا، وأن ما كنا قد حققناه من حرية نسبية وتطور محدود ينبغي أن يتلاشى ونسلم أمورنا نهائياً للأوصياء القادمين في ثياب المجتمع الدولي.
ونحن نعرف أن الذئب لن يتحول في يوم أو حتى في دهرٍ إلى راع يحرس الغنم ويدافع عن صفوفها مهما أبداه من التحسر والألم إزاء واقع القطيع وما يتعرض له من إهمال وسوء إدارة، كما أنه من الصعب إطفاء الرمضاء بالنار حسب شاعرنا العربي القديم.
ولكاتبنا الغاضب أشباه ونظائر من الذين كانوا ولا يزالون يرون أن العرب بحاجة إلى فترة أخرى من الاحتلال تحررهم من الفوضى والصراعات الطائفية التي فعلت في بعض الأقطار ما لم يفعله الاحتلال، والغريب أن هؤلاء ينسون أو يتناسون أن الاحتلال نفسه هو الذي أيقظ الطائفية بعد أن كانت قد انقرضت وحل محلها شعور فطري وطبيعي بالمواطنة بوصفها سبيل كل الشعوب إلى التعايش وتوجيه الطاقات إلى البناء بدلاً عن إهدارها في تدمير العلاقات الأخوية وتأجيج الأحقاد والضغائن ضد من نشاركهم في الوطن والحياة والذين لا مفر لنا من أن نتقاسم معهم الماء والهواء.
إن من حق الكاتب، بل من حق أي إنسان أن يغضب ويثور في وجه الأخطاء وأن يكون صاحب موقف ناقد ومعترض لكن ليس من حقه أن يدعو إلى ما قد يكون سبباً في التفريط بسيادة وطنه ومحاولة إقناع أبناء هذا الوطن أن يتقبلوا الوصاية الخارجية وما تفرضه عليهم من أجندات وبرامج، كما أن من حق الكاتب بل ومن حق أي إنسان أن يدعو إلى تغيير مستويات التعبير الراهنة وما تحمله من «فيروسات» تشيع الخلافات وتحض على الكراهية، إنما ليس من حقه ولا من حق أي إنسان أن يطالب بلغة ليس في قاموسها حب الوطن واحترام الحرية حتى لو كانت الظروف تحول بين تطبيق هاتين المفردتين في الواقع، فما يحدث في الآونة الراهنة ليس نهاية المطاف والمستقبل يظل دائماً واعداً بمتغيرات تتجه مؤشراتها نحو الأفضل، وسنظل نؤمن بأنه من تراب اليأس تنبت زهور الأمل.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"