صفحة من التاريخ

على الوتر
03:11 صباحا
قراءة 3 دقائق

في التاريخ صفحات كثيرة تستلزم منا العودة إليها من حين لآخر، إذا أردنا أن نفهم الحاضر ونستوعب أحداثه، كي نتجنب خطايا اليوم التي لا تختلف بحال من الأحوال عن خطايا الأمس، ونبصر الطريق للإنجاز والانتصار والتقدم مستقبلاً بالبناء على الأحداث والصفحات المضيئة من التاريخ، وباستلهام سير شخصيات تركت آثاراً عجزت عوامل التعرية وتقلبات الطقس السياسي عن إزالتها .

الحملة الفرنسية على مصر بقيادة نابليون بونابرت، من الصفحات التي ينبغي استحضارها دائماً ودراستها والبحث في آثارها السلبية، والإيجابية أيضاً، ومقارنة ما حدث خلالها بما يحدث اليوم، واستخلاص العبر منها بما يعود بالفائدة علينا وعلى أبنائنا مستقبلاً .

وقد كانت الحملة الفرنسية موضوعاً للعديد من الأعمال الأدبية والفنية، منها أعمال سقطت على قارعة الطريق نتيجة قراءتها للحدث بسطحية وبما يحقق أهدافاً استهلاكية، ومنها أعمال أثارت الكثير من الجدل، واختلف الناس عليها، مثال ذلك فيلم وداعاً بونابرت الذي كتبه وأخرجه يوسف شاهين وعرض على الشاشات في العام ،1985 ولعب بطولته من فرنسا ميشيل بيكولي وكلود سيرنيه، ومن مصر أحمد عبدالعزيز ومحسن محيي الدين ومحسنة توفيق وعبلة كامل . وفيه قدم شاهين قراءة للحملة التي جاءت إلى مصر في العام 1798 ورحلت في العام ،1801 من خلال 3 إخوة تتباين مواقفهم منها، حيث ينضم أكبرهم للمقاومة الشعبية، في حين تعاون الثاني مع الفرنسيين وتعلم لغتهم، أما الثالث فقد حاول الاستفادة من علمهم ونقله إلى المقاومة، واستعرض وجهات نظر كل منهم ومبرره للموقف الذي اتخذه .

اليوم تعود الحملة الفرنسية برؤية مختلفة تماماً من خلال ملحمة نابليون والمحروسة للكاتبة عزة شلبي والمخرج التونسي المتميز جداً شوقي الماجري، ليقدما معاً عملاً يستعرض القوة المفرطة والأسلحة الفتاكة التي استخدمها الفرنسيون من أجل سيطرتهم على مصر، وفي المقابل رفض المصريين لهم ومقاومتهم بالعصي والأدوات البدائية، وعدم ترك بونابرت ورفاقه وجنوده يهنأون في مصر رغم محاولته استمالتهم بكل السبل، ابتداء من إعلانه اعتناق الإسلام، وأنه قادم لتحريرهم من حكم وظلم المماليك، وانتهاء باعتناق خليفة خليفته مينو الإسلام وزواجه من زبيدة التي كانت تلقب بغادة رشيد .

حاول بونابرت أن يعزف على وتر العقيدة لدى الشعب المصري، وأدرك أنه مجرد استغلال للعقيدة والدين، وذلك رغم أن أحوال المصريين حينئذ كانت أيضاً فقراً وضياعاً وأمية، ومثلما يحدث في زماننا وفي كل زمان، وجد القائد الفرنسي من يخونون وطنهم ويعملون لحساب الفرنسيس، وفي المقابل وجد أيضاً من يناهضون الاحتلال ويقاومونه رغم أنهم لا يمتلكون لا السلاح ولا المال، ولا حتى قوت يومهم، ولكنهم يمتلكون الانتماء ويرفضون أن يدنس تراب أرضهم ووطنهم المحتل، أياً كانت الشعارات التي يرفعها .

لعل القائمين على نابليون والمحروسة يريدون استدعاء هذه الصفحة من التاريخ المصري وإسقاطها على الواقع اليوم، حيث كانت مصر محاصرة من الاحتلال الفرنسي وما أحدثه من فوضى في البلاد، وأيضاً محاصرة بفساد العهد البائد وهو عهد حكم المماليك، وإلى جانب هؤلاء وأولئك كان هناك قطاع الطرق الذين يعيثون في الأرض فساداً وإفساداً، ناهيك عن الوضع الاقتصادي المتردي والفلتان الأمني، ومن يلتفت إلى الخريطة قد يلحظ أن أكثر من دولة عربية تمر بظروف مشابهة .

المسلسل لا يسرد حكاية الحملة الفرنسية على مصر كما وردت في كتب التاريخ، ولكنه يتجاوزها للبحث في آثارها الاجتماعية في الشعب المصري، ويكشف معاناة البسطاء من جرائها، والثمن الذي دفعه أهل القرى من مطاردات الفرنسيين للمماليك في الصعيد، ويضيء على نماذج من الشباب المصري الذي دفع حياته ثمناً لحرية بلاده .

وأيضاً لم يتجاهل نابليون والمحروسة أن مصر لم تكن مطمعاً للفرنسيين وحدهم، بل أيضاً لغيرهم، وكانت أيضاً تحت الاحتلال العثماني، كما أنه كشف عن أن الفرنسي كان قادماً لأجل معركة ضد الإنجليز والأتراك على أرض مصر، وكان يرغب في أن ينشر لغته، ويقاوم المرض، ويعلّم الشباب، باختصار كان قادماً ليفيد ويستفيد، وبالفعل فقد أفاد وآثاره مازالت موجودة، وأهمها المجمع العلمي الذي أحرقته أيادي الجهل والتعصب والعنف منذ أشهر وتمت إعادة بنائه، ورغم محاولات نشر العلم والثقافة، إلا أنه لم يكن مرحباً به من قبل المصريين الذين لم يرحبوا عبر تاريخهم بأي محتل، ولذلك كانت القاهرة، وستظل، دائماً قاهرة الغزاة .

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"