ضوء في حلكة الظلام

01:27 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسن العديني

مبادرة خلاقة، وعمل رفيع في كابوس الخرائب، وفي المناخ المضطرب والأجواء المشحونة. هذا ما يجب قوله في وصف مؤتمر أبوظبي للحفاظ على التراث الثقافي الذي خرج بإنشاء صندوق لحماية التراث الثقافي وشبكة دولية من الملاذات الآمنة.
سيقال إن الحديث عن مناخ مضطرب، وأجواء مشحونة غير دقيق، وغير مفهوم، بعد أن تجاوزت الحالة في المنطقة حدود الحرب بالكلام إلى المواجهة بالنار. والحقيقة أن الحروب الدائرة الآن ليست الخاتمة، ولا هي فصل الخطاب، وليس هناك ما يومئ إلى أن تعب المقاتلين أقنعهم بضرورة التسويات السياسية، ذلك أن أمورهم ليست في أيديهم، وهم في حماة التعبئة الطائفية سيواصلون العناد والقتال.
المهم أنه في هذه الأجواء المعبّأة بالنذر والعواصف، استطاع المواطن العربي أن يرى أن عالمه لا ينحصر في مشاهد الدم والدمار في حلب والموصل وتعز وطرابلس، وأن هناك في أماكن أخرى من وطنه الفسيح من يصمم على استمرار الحياة وقهر فوضى صناعة الموت.
وحيث تمثل الثقافة الحصن والملاذ والطاقة الدفاقة، جاءت مبادرة الإمارات العربية المتحدة إلى هذا المؤتمر بعد أن لاحظت قيادتها ما أصاب مدناً أثرية بكاملها من دمار، سواء بسبب القتال، أو بفعل مقصود على أيدي التنظيمات الإرهابية، خصوصاً «داعش».
وقد شاهد العالم، بمرارة وحرقة، أعمال تحطيم الآثار في مدينتي تدمر في سوريا، ونينوى في العراق، على الغرار الذي حصل قبل سنوات بتكسير تماثيل بوذا بمعاول حركة طالبان. هذه الأعمال شكلت ناقوس خطر، وفي الوقت نفسه نبهت إلى المخاطر القديمة والدائمة على الحضارة والتراث الإنساني، وأوجبت فتح الملف بأوراقه كلها، ليشمل سرقة الآثار ونهبها والتجارة غير المشروعة فيها، وليست بعيدة وقائع اقتحام ونهب المتاحف العراقية خلال الاحتلال الأمريكي. وتكاد سرقة وتهريب الآثار مشكلة تعانيها جميع البلدان المشهور فيها ما يخص مصر المعروفة بكنوزها الثمينة، خصوصاً الموروثة من العصور الفرعونية. وأما الخافي عن الأنظار والأسماع فهو نهب وتدمير وإهمال الآثار والمخطوطات في اليمن، فهناك تساعد الأوضاع العامة على شيوع الظاهرة، وأهمها هشاشة الدولة، وغياب سلطانها في المناطق الأثرية المهمة، وبالذات عواصم الدول القديمة: معين وسبأ وحمير وقتبان. كما لا تتمتع وزارة الثقافة والهيئة العامة للآثار بالكفاءة، ولا تمتلك القدرات والخبرات، ولا تتوفر لديها مسوح وخرائط أثرية، وكذلك لا يوجد نشاط قديم للهيئات الأجنبية المتخصصة التي تحاول الآن المساعدة في البحث والتنقيب والصيانة، إضافة إلى انتشار الجهل واستشراء الفساد ما يتيح لكبار موظفي الدولة، وبخاصة المسؤولين في وزارتي الثقافة والأوقاف التعامل مع شبكات دولية لتهريب الآثار والمخطوطات. وقد يشمل الفساد الإهمال، أو إيكال ترميم مواقع أثرية لمقاولين عاديين غير متخصصين بغرض الحصول على الرشوة. والظاهر أن الجهل والفساد كانا وراء سماح الحوثيين لتسعة عشر يهودياً يمنياً بمغادرة البلاد إلى «إسرائيل» حاملين تحفاً ومخطوطات، بينها كتاب نادر من التوراة سلموه إلى رئيس الحكومة «الإسرائيلية» نتنياهو في صورة متلفزة.
لا شك في أن سرقة الآثار أهون من محوها من الوجود كالذي تفعله «داعش» والإسلاميون المتطرفون حتى يكادوا يقدمون أدلة اضافية على أن مخابرات أجنبية تديرهم، وترغب في طمس هويات الشعوب العربية، وإزالة شخصيتها الحضارية.
وأعود إلى مؤتمر أبوظبي الذي وضع القضية في حجم خطر ماحق يتهدد الحضارة الإنسانية، وإن كنت لا أملك الخبرة والمعرفة بالمشكلات الفنية والقانونية والأمنية بموضوع نقل الآثار إلى ملاذات آمنة، وإن كنت أعرف أن المصريين نجحوا في نقل معبد أبو سنبل أثناء بناء السد العالي بجهود دولية وبمساهمة اليونيسكو، ما يعني أن الأمر ممكن من الناحية الفنية. ويرتبط الأمان بمواقف القوى المتصارعة، ووعيها بقيمة التراث وبالتعقيدات القانونية عندما يتعلق بالنقل بين بلدين. إن هذا سيتطلب دراسات وافية من متخصصين تمتلكهم بلدان ومنظمات عدة شاركت في المؤتمر. والأمر الواضح هو مكافحة الاتجار غير المشروع، وترميم الممتلكات الأثرية، ففي هذا لباب سيكون هناك نجاح محقق يلفت الانتباه إلى دور ذكي للإمارات العربية المتحدة في السياسة والثقافة، كما هو شأنها في الاقتصاد.
وقد كان من حسن الطالع عقد المؤتمر في العيد الوطني للإمارات التي شكل اتحادها في 1971 علامة فارقة، ليس بصموده قياساً بالخيبات العربية فقط، و إنما بإنجازات دولة نهضت من رمال الصحراء إلى قامة اقتصادية سميكة النسيج الاجتماعي تتوفر على بنية ثقافية ومعرفية متينة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"