ظاهرة ترامب وأزمة الهوية في الحزب الجمهوري

03:06 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. غسان العزي

في «الثلاثاء الكبير» في بداية الشهر الجاري كرس دونالد ترامب تقدمه الواضح في الانتخابات التمهيدية، داخل الحزب الجمهوري، وهو تقدم مستمر ولاية بعد أخرى، الأمر الذي يتسبب بإحراج كبير لقيادة هذا الحزب التي أخفقت كل محاولاتها لوقف زحف هذا «البلدوزر» والذي تحول إلى «كابوس» كما تقول بعض الصحف الأمريكية التي تتفق على وجود شرخ كبير بين القاعدة والقادة المحافظين كشفته حملة ترامب الانتخابية. «النيويورك تايمز» تعتبر أن فوز ترامب في الانتخابات التمهيدية «قد يشكل هزيمة تاريخية لمؤسسات الحزب الجمهوري وقد يتسبب بانقسام داخلي عميق».
كارل روف الذي قاد الحملة الانتخابية لجورج بوش الابن يقول بأن تسمية ترامب ستكون «كارثية» للحزب الجمهوري في حين أن بول لوباج حاكم ولاية مين اقترح على زملائه كتابة رسالة مفتوحة للشعب ضد ترامب، وهو اقتراح لم يؤخذ به لأن الأصوات المعارضة لترامب تساهم في تقويته، فحملته الانتخابية قائمة على كراهية نخبة الحزب له وعلى انتقاد الشعارات القديمة التقليدية للحزب وعلى ازدراء المال الانتخابي الذي يلعب تقليدياً دوراً كبيراً في الحملات الانتخابية، كما تقول صحيفة «ذي اتلانتيك» في محاولة لفهم صعود ظاهرة ترامب. هذا الأخير يقدم وعوداً تذهب في عكس سياسات الحزب التقليدية، فالمحافظون يركزون على حكومة محدودة أما هو فيعد بحكومة واسعة قوية تعمد إلى حل كل المشكلات التي تعانيها الولايات المتحدة شريطة أن تكون تحت قيادته وإمرته بالكامل.
وتكشف استطلاعات الرأي عن الفجوة العميقة بين القاعدة والنخبة في الحزب الجمهوري، وآخرها استطلاع بّين أن 67% من الجمهوريين يؤيدون خفض عدد المهاجرين في حين إن قادة الحزب عموماً يتمنون زيادة هذا العدد. ترامب، من جهته، وعد ببناء جدار بين المكسيك والولايات المتحدة ومنع الهجرة نهائياً وطرد 11 مليون مهاجر غير شرعي.
ماذا تكشف ظاهرة ترامب في العمق؟ لقد قيل الكثير عن ناخبيه ومؤيديه: أغلبية بيضاء من المتقدمين عموماً في السن ومن غير المتعلمين والذين يعبرون عن مخاوفهم وهواجسهم حيال الحداثة ونخب لم تعد تتطلع اليهم بل إنها تضحي بهم على قربان مصالحها. وصعود ترامب ليس إلا صعوداً للشعبوية المعادية ل«السيستم» أو النظام والذي نشاهده أيضاً في أوروبا، ما يعني أنه من خصائص الحقبة التي تعيشها الديمقراطية الغربية في هذه الأيام.
لقد سبقت ظاهرة ترامب في الولايات المتحدة حركة محافظة جداً هي حزب الشاي (تي بارتي) التي لمع نجمها في العام 2010 بعد انتخاب أوباما. ولكن على عكس ناخبي حزب الشاي فإن محبذي ترامب لا يعرفون أنفسهم بأنهم متدينون ولا حتى محافظين جداً. إنهم من البيض ولكن ما يميزهم هو قبل كل شيء ضعف مداخيلهم أي انتمائهم إلى الطبقات الشعبية، أنهم من أكثر الجمهوريين فقراً في حين أن المؤيدين لمرشحي الاستابليشمنت(المؤسسة) مثل ماركو روبيو أو تد كروز أو جب بوش (الذي انسحب من السباق) هم من الفئات الميسورة.
من هنا على الأرجح تركيز ترامب على إشكاليات جديدة في حملته تقطع مع الإشكاليات التقليدية المطروحة في الحملات الانتخابية الجمهورية منذ أربعين عاماً والمتعلقة بالقيم. ترامب يطرح المسائل الاقتصادية والاجتماعية فتصبح المسألة معه طبقية ويتم الانتقال من الصراع الإيديولوجي حول تعريف العقيدة المحافظة إلى صراع الطبقات، وهذه خاصية غريبة بالنسبة للولايات المتحدة وللحزب الجمهوري أيضاً. فالأمريكيون تاريخياً، ولاسيما الجمهوريون منهم، لا يعتقدون بصراع الطبقات ذلك أن بلدهم هو بلد النجاح الشخصي والحرية الفردية التي لا تتحمل تدخل الدولة، و الفقراء إذا كانوا كذلك فلأنهم يريدون أن يكونوا فقراء فال«الحلم الأمريكي» يتيح لكل فرد النجاح في العمل إذا أراد ذلك فعلاً ووضع كل طاقته لبلوغ هذا الهدف أو على الأقل هذا ما كان عليه الحلم الأمريكي، حلم أمريكا الطبقات الوسطى التي يتهددها التفاوت المتزايد بين الطبقات منذ ثمانينات القرن المنصرم. لقد برهنت أزمة العام 2008، وهي الأخطر منذ الركود الكبير في العام 1929، بأن الحلم المذكور يتلاشى بعد ثلاثين عاماً من السياسات النيوليبرالية، بل ربما أنه لم يكن موجوداً في الأصل.
الضربة قاسية على الحزب الجمهوري الذي يتألف ناخبوه، في جزء كبير منهم، من هذه الطبقة الوسطى التي تراجع مستواتها المعيشي، ومن طبقات شعبية تضررت من التطورات الاقتصادية الأخيرة. لقد كشفت الأزمة عن المأزق الذي وقع فيه الحزب الذي وصل إلى نهاية منطق سمح له منذ عقود عديدة بدفع أغلبية ناخبيه للتصويت ضد مصالحهم الاقتصادية عبر تشتيت انتباههم عن المسائل الاقتصادية ولمصلحة المسائل القيمية والثقافية والمجتمعية.
تشكل تسمية ترامب مرشحاً جمهورياً في السباق إلى البيت الأبيض تهديداً خطراً لوحدة حزبه الذي يفتقد إلى زعامة على رأسه ويعاني أزمة هوية وشروخاً بين القواعد والنخب، فقد أقسم عدد كبير من قادة الحزب على عدم التصويت له. أكثر من ذلك فقد يشكل وصوله إلى البيت الأبيض تهديداً للولايات المتحدة كدولة ومؤسسات. فبعد وعوده بتعذيب الإرهابيين وقتلهم وقتل عائلاتهم والتي تراجع عنها لاحقاً تحت موجات التنديد والاستنكار، نشر أكثر من سبعين خبيراً جمهورياً في مجال الشؤون الخارجية والأمن القومي رسالة مفتوحة تندد بتقلب مواقف ترامب وخصوصاً بتصريحاته حول التعذيب.
والأخطر هو رد الجنرال المتقاعد المدير السابق للسي.آي.ايه مايكل هاميرن بأن الجيش الأمريكي لن ينفذ أوامر مخالفة للقوانين. وهذا يعني بأن البلد كله قد ينقسم في حال وصول ترامب إلى البيت الأبيض.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"