عائد من بلاد الإغريق

03:35 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. مصطفى الفقي

قضيت أياماً في العاصمة اليونانية (أثينا) ولم يبرح ذهني لحظة واحدة أن ذلك البلد الأوروبي يواجه أزمة اقتصادية طاحنة تبدو قابلة للمقارنة مع مصر التي تواجه هي الأخرى أزمة اقتصادية مع اختلافات في النوعية والكيفية والحجم، إذ إن عدد سكان اليونان يزيد قليلًا عن عشر سكان مصر، كما أن اليونان دولة عضو في الاتحاد الأوروبي، كذلك فإنها لا تستورد غذاءها من الخارج بنفس النسبة التي تمضي عليها مصر.
وخلال مناقشات طويلة في ذلك البلد الذي يحمل شعبه مشاعر طيبة للغاية تجاه الشعب المصري عرفت أن الاتحاد الأوروبي قد ضخ مئتي مليار يورو، وفي قول آخر أنه زاد عليها مئة وخمسين ملياراً أخرى، وتذكرت أن بلادي تفاوض صندوق النقد الدولي في مليارات لا تزيد على أصابع اليدين، وقلت في نفسي كان الله في عون المصريين ومن يحكم ذلك البلد في ظروف صعبة ومعقدة، ونظرت على الجانب الآخر لأرى الدولة التركية عضو حلف الأطلسي التي استثمر فيها ذلك الحلف لأسباب استراتيجية وعسكرية مطارات وموانئ وقاطرات جعلت تركيا الحديثة تقف على قدميها وتطرق بقوة باب الاتحاد الأوروبي رغم الخلافات الثقافية التي تحول دون ذلك، وقلت مرة أخرى كان الله في عون مصر والمصريين ومن يحكم البلاد في ظروف غير مسبوقة، ولكنني تداركت أيضاً- تحت تأثير محاولة جلد الذات- أن المصري قد توقف فترات طويلة عن الإنتاج وأهمل الخدمات، وعاشت فيه عقوداً فئات مدللة تعيش في بيئة فاسدة بصورة أدت إلى ضرب العدالة الاجتماعية وإلى العبث بموارد البلاد وفي مقدمتها عنصر الأرض وهي أهم عناصر الإنتاج، وقلت لنفسي، إننا في مصر نشبه من كان ينفق على ما يأكل ويشرب ويلبس ويعيش به على (النوتة) أملاً في الدفع الآجل ذات يوم، ثم جاءت ثورة 25 يناير/كانون الثاني و30 يونيو/حزيران على نحو أدى إلى كشف المستور وتعرية الأوضاع الاقتصادية بجناحيها التنموي والخدمي، كما أن مصر تواجه ظرفاً صعباً للغاية، ربما لم يواجهه غيرها في عالمنا المعاصر، فهي تحارب الإرهاب في سيناء بل وفي ربوع الوطن كله، كما أنها تقاتل في الوقت ذاته من أجل البناء والتنمية والخروج بالاقتصاد المصري من ظروفه الصعبة، مع المحافظة في الوقت ذاته على أعمدة الدولة المصرية والكيانات السيادية القائمة، أقول ذلك بعد طواف بالمتحف الكبير والجديد في العاصمة أثينا وسط ساحة (الأكروبول)، حيث نقلت الحضارة الإغريقية عن الحضارة الفرعونية الملهمة مظاهر الإبداع وعناصر التألق، حتى شهدت مصر تزاوجاً بين الحضارتين منذ أن وصل الإسكندر الأكبر إلى (معبد آمون) في سيوة حتى نهاية حكم البطالمة، وانتهاء الحقبة الإغريقية في الحضارة المصرية، ويهمني هنا أن أسجل الملاحظات التالية:
أولاً: إن مصر جزء من أمتها العربية يجمعها بها أمن مشترك، كما أن دول المنطقة العربية معرضة لمخاطر وفدت علينا في السنوات الأخيرة تحت مسميات مختلفة وشعارات ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، لذلك فإن الحديث عن الأوضاع في مصر إنما هو جزء لا يتجزأ من الحديث عن الوضع العربي العام بكل آلامه وأحزانه ومتاعبه.
ثانياً: إن مصر دولة قديمة تملك كل أسباب البقاء والاستمرار مهما كانت التحديات أو المصاعب، كما أنها قد واجهت عبر تاريخها الطويل كل ألوان الضغوط الخارجية والداخلية واستهدفتها الأطماع في كل العصور، ولكنها ظلت دائماً متماسكة وموحدة وشديدة المراس وعصية على السقوط.
ثالثاً: إن مصر في حاجة إلى إيجاد حلول ذكية وعصرية وعاجلة لمشكلات الغذاء والطاقة والمسكن، معتمدة على صناعة وطنية لابد أن تنهض بدورها كقاطرة للتقدم، فالصناعة هي في النهاية عملية توظيف العلم لتحقيق التكنولوجيا الحديثة التي تعبر عن الإسهام الوطني في مسيرة التقدم الإنساني كله؛ إذ ليس معقولاً أن نستورد طعامنا وألا توجد لدينا وجبة محلية لفقرائنا وأن تسيطر علينا دائماً حالة من الإحباط وعدم الرضا في كل الأوقات.
إنني عندما كنت أتجول في شوارع أثينا كنت أتساءل ألم تكن الإسكندرية كذلك في أربعينات القرن الماضي، فيا ترى ماذا جرى وما الذي دهمنا حتى نصبح بهذه الصورة رغم أننا نملك من الموارد البشرية ما لا يملكه غيرنا؟ ولكنه دائماً سوء الإدارة المسؤول الأول عن ضعف إنجازاتنا وتراجع صادراتنا واتساع حجم وارداتنا وضعف التدفق السياحي لبلد يملك مفاتيح الحضارات وانصهرت في بوتقته الثقافات.
فلنتأمل أصدقاءنا في اليونان وكيف يعيشون وماذا يفعلون؟ حتى ندرك أننا نمضي على الدرب الصحيح حتى ولو كان الطريق صعباً والتحديات هائلة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"