عالم جديد يتشكل

03:40 صباحا
قراءة 4 دقائق
د.مصطفى الفقي

الأمر المؤكد هو أن العالم بعد ظهور وباء كورونا لن يكون أبداً هو ذات العالم الذي كنا نعيشه قبل هذا الوباء

أجمعت آراء معظم المفكرين المعاصرين وخبراء السياسة الدولية ونظم الحكم، على أن العالم لن يكون بعد كارثة كورونا مثلما كان قبلها وأن تغييرات جوهرية سوف تطرأ على مكوناته السياسية والاقتصادية والثقافية وعلى نفسيات الشعوب وأخلاقيات الأمم، وأن بورصة الدول من حيث أوزانها ومراكز ثقلها سوف تختلف عمّا كانت عليه.

وتحاور الخبراء كثيراً حول دور كل دولة في المستقبل القريب ووقفوا طويلاً أمام دولة الصين؛ إذ إن التنين الأصفر يبدو لاعباً رئيسياً فيما حدث، وأنا لا أزعم أنه يقف وراء ما جرى أو أنه كان السبب فيه، لكن وبافتراض صحة كل ما قيل فإن الصين كانت في البداية ضحية لهذا الوباء كغيرها، لكن الذي جرى بعد ذلك يؤكد أن بكين هي الرابح الأول بعد كل ما حدث وقد حققت مكاسب اقتصادية في إطار الصراع المحموم على ساحة الاقتصاد الدولي، فهي التي استردت شركاتها ومؤسساتها من المارد الأجنبي بأبخس الأثمان في ظل الرعب الشديد للأسابيع الأولى عند ظهور وباء كورونا واقتصاره لفترة على الصين وحدها، لكنها قامت في النهاية بعملية تأمين لممتلكاتها الأصلية دون أن تدفع الأثمان الحقيقية لما استردته، ولا بأس في ذلك فهذه كلها تصرفات مشروعة في ظل قوانين السوق ونظرية العرض والطلب.

ولكن الأمر المؤكد هو أن الصين قد تمكنت من تأكيد دورها الدولي عندما استطاعت وخلال أسابيع قليلة احتواء الوباء على أرضها -وهي التي ظهر منها- لكي تثبت للجميع أن العملاق الصيني جاهز وقادر ومستعد؛ بل إن كثيراً من احتفالات الدولة الصينية بمناسبة الانتصار على الوباء لم تخلو من لمسة استعراضية لمكانة دولة الصين في العالم المعاصر، وهي التي دفعت بأطقم الإغاثة والعلاج إلى إيطاليا عندما داهمها الوباء بشكل ساحق في وقت لم تتمكن فيه الدول الأوروبية الأخرى من مد يد العون لشقيقتهم إيطاليا مركز المخزون الثقافي والتراكم الحضاري في القارة العجوز، ثم كان ما تعرضت له الولايات المتحدة الأمريكية عندما داهمها الوباء وكشف الغطاء عن مستوى الخدمة الصحية والرعاية الطبية في دولة يفترض فيها أنها قائدة العالم، وها هي دول أخرى عانت وتعاني داخل أوروبا ذاتها ولا تجد دعماً أمريكياً ولا دعماً أوروبياً؛ إذ يبدو أن المشكلة أكبر من الجميع، وأخطر من كل تصور، لذلك فإنني أظن أن عالماً جديداً قد ولد من رحم المأساة الإنسانية التي سيطرت على كل بيت في عالمنا المعاصر وأننا سوف نخرج منها برؤى جديدة لعل أبرزها:

أولًا: إن التفوق العسكري والتقدم الاقتصادي لا يكفيان وحدهما دون السعي نحو إمكانية البحث العلمي وتوظيفه لخدمة البشر، خصوصاً أن كل اكتشاف أو اختراع هو سلاح ذو حدين، فالذي اخترع الديناميت كان يسعى إلى سهولة تفجير الجبال وفتح الأنفاق ولم يكن يفكر في تحطيم المؤسسات وسقوط مئات الضحايا ولقد ندم على ذلك كثيراً ورصد جائزة (ألفريد نوبل) باسمه تكفيراً عن ذنب ارتكبه وهو في ساحة البحث العلمي.

ثانياً: لابد أن تعيد القوى الكبرى النظر في مقوماتها الداخلية وأدوارها الخارجية في ظل أزمات اقتصادية متوقعة وظروف دولية معقدة بعد مأساة جمعت البشرية على هدف واحد، لكنها نزعت أيضاً بعض مشاعر الإنسانية الدفينة ووضعت بديلاً لها قدراً كبيراً من الأنانية والرغبة في المضي وراء مصالحها الذاتية والانكفاء على مشكلاتها الطاحنة.

ثالثاً: لقد اندهش كثير من الخبراء من أن الدول الأكثر تقدماً كانت هي الأكثر تضرراً، لقد كانت وطأة المرض لدى دول الثروات المحدودة أقل من تلك التي تعرضت لها دول التقدم الاقتصادي والثقل العسكري، وذلك يعني أن الفقراء لديهم أحياناً مناعة طبيعية قد لا يحوزها القادرون من حيث المكانة السياسية أو القدرة المادية أو التأثير في الغير.

رابعاً: لا شك في أن القارة الأوروبية كانت في مجملها هي الأكثر تضرراً، وسوف يكون لذلك بالضرورة انعكاسه على الاتحاد الأوروبي بعد أن تلقى ضربتين متتاليتين وأعني بهما خروج بريطانيا منه ثم مأساة كورونا وما أحدثته في دول مثل إيطاليا وإسبانيا وفرنسا وألمانيا، وغيرها من دول ذات اقتصاديات قوية نسبياً وكان يجب أن تتعافى بسرعة، فضلاً عن إمكانية تفاديها لهذا الوباء الذي ظهرت بوادره منذ الشهر الأخير من عام 2019.

خامساً: لابد أن تتجه نسب معقولة من الدخول القومية للدول نحو البحث العلمي مع اشتراطات أخلاقية تلزمه بأن يكون علنياً ولخدمة الإنسان.

إن التنبؤ بمستقبل العالم أمر تحفه المخاطر بسبب اختلاف ردود الفعل لدى كل دولة بعد ما جرى لها، لكن الأمر المؤكد هو أن العالم بعد ظهور وباء كورونا لن يكون أبداً هو ذات العالم الذي كنا نعيشه قبل هذا الوباء، فسوف يبدأ فهم مختلف لقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان ومفهوم الحرية الفردية الذي سيطر على الفكر الغربي الرأسمالي لعشرات السنين.. إنني أنضم أيضاً إلى بيل جيتس في إحساسه بالقلق المشروع من ألاّ يكون كورونا هو الوباء الأخير.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"