عبدالناصر السياسة والحكم

05:16 صباحا
قراءة 6 دقائق

كتبت أخيراً عن الرئيس الراحل محمد أنور السادات في ذكرى عيد ميلاده واليوم أكتب عن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر في ذكرى عيد ميلاده أيضاً ولقد اعترفت فيما كتبت عن الرئيس السادات أن عقلي معه ولكن عواطفي لا تزال أسيرة العصر الناصري .

والحديث عن جمال عبدالناصر محفوف بالمخاطر لأن الرجل تعرض لحملة حاولت النيل من إيجابياته في غمار انتقاد سلبياته فأطاحت تلك المدرسة في التحليل بالتجربة الناصرية بما لها وما عليها وحملتها خطايا الكون ومشكلات الوجود حتى ظن البعض أن ظاهرة الاحتباس الحراري هي نتاج لبحيرة ناصر وبناء السد العالي الذي دخلت مصر بسببه حزام الزلازل كما يقولون . وهكذا نحن دائماً نفرط في التشويه والاستنكار مثلما أفرطنا في المديح والنفاق، ويهمني أن أسجل هنا أن الأغلب الأعم من الشعب المصري قبل نكسة 1967 كان ينظر إلى الرئيس عبدالناصر باعتباره مبعوث العناية الإلهية لإنقاذ مصر والعرب مما يحاك ضدهم من مؤامرات وليقودهم نحو التحرر الوطني والعدالة الاجتماعية والسيادة القومية، وفور رحيله فتحت عليه النيران من كل اتجاه فأطلق الشاعر الكبير صالح جودت رصاصاته الأولى على العصر الناصري الذي كان يتغنى به، وكتب توفيق الحكيم كتابه عودة الوعي وهو الذي كان قد بدأ حملة الاكتتاب لتمثال لعبدالناصر غداة رحيله وقال إن يديه ترتعشان وهو يكتب رثاء البطل الراحل، وقس على ذلك عشرات الأمثلة والنماذج ممن خرجوا من عباءة عبدالناصر ثم انقلبوا عليه .

وعلى الجانب الآخر خرج من سجون عبدالناصر من يدافعون عنه حتى الآن لأنهم يدافعون عن المبدأ وليس الشخص وتلك قيمة تستحق التقدير لأولئك الذين دفعوا الثمن مرتين، مرة في حياة عبدالناصر والثانية بعد رحيله .

والآن دعني أضع مع القارئ إطاراً موضوعياً لزعامة عبدالناصر ومكانته في تاريخنا القومي وتطورنا السياسي، دعنا نتأمل بعض أساليبه والشواهد التي تؤكد حكم عصره عليه فالتقييم الموضوعي يقتضى أن تعيش في زمان ومكان الحدث لا أن تجلس بعد عشرات السنين تحلل وتنظر بمقاييس وقتك، إن ذلك افتراء على الموضوعية وقيد يرد على مثالية التجرد . إننا الآن أمام الملاحظات التالية:

* أولاً: إن عبدالناصر ظاهرة قومية استثنائية بجميع المقاييس وهو قامة عالية في التاريخ العربي الحديث، ملأ الدنيا وشغل الناس ومازالت أصداء عصره تترك بصماتها على الأرض العربية وفضاء الشرق الأوسط . فلقد تمتع الرجل بشعبية ليس لها نظير بين الزعامات المعاصرة، لقد حمل السوريون سيارته لكي تقطع مسافة كيلومترين في أربع ساعات وتنادت إليه أصوات المجاهدين فوق جبال الجزائر وهضاب عدن، وارتبط عصر الترانزيستور بخطب الزعيم النارية وتصريحات الثائر الذي تطلعت إليه الشعوب والتفّت حوله القلوب، حتى إن أكبر طريق من مطار نيودلهي إلى وسط العاصمة الهندية هو طريق عبدالناصر، كما أن العاصمة الأردنية تحتضن ما يسمى بدوار عبدالناصر رغم العلاقات السلبية التي ربطت ذلك الزعيم بالملك الراحل حسين بن طلال في معظم سنوات حكمه . ومازال المصريون من جيلي يتذكرون مواقفه الحاشدة وخطبه في أعياد الثورة ونبرة صوته يوم تأميم قناة السويس، لقد غنى له عبدالوهاب وأم كلثوم وعبدالحليم حافظ وترددت حوله الأشعار وصدحت الدفوف بالأذكار، وعشنا سنوات الحلم القومي نتصور أن لدينا أقوى قوة ضاربة في الشرق الأوسط وأكثر اقتصاديات المنطقة نهوضاً إلى أن جاء المشهد الحزين في يونيو/ حزيران 1967 لنكتشف أن الحلم كان وهماً وأن الحقيقة كانت أملاً .

* ثانياً: إن من أكبر المآخذ على عهد عبدالناصر هي غياب الديمقراطية والأخذ بالتنظيم الواحد، وانعدام الرأي الآخر، وأنا أزعم هنا أن الأمر لا يؤخذ بهذه البساطة، ففي فترات التحرر الوطني وحيث يوجد زعيم له كاريزما قوية فإن الأمر يختلف لأن شعبيته الجارفة تبدو وكأنها استفتاء يومي على حكمه، وبالتالي فإن الغاية الديمقراطية قد تتحقق ولكن من دون وسائلها المعروفة أو إجراءاتها المعتادة . وفي العصر الإسلامي الأول تباهى عالم دين فذ بشعبيته أمام السلطان الباطش وقال له بيننا وبينكم الجنائز فهي التي تحكم على مكانة الفرد وقيمته بين معاصريه، ولما لقي ذلك القطب الصالح ربه خرجت وراء نعشه بغداد كلها، ونحن لا ننسى جنازة عبدالناصر التي مازالت تدرس في علم النفس الاجتماعي كنموذج لظاهرة الحزن الجماعي ولقد رأيت بعيني رأسي ليلة أن رحل عبدالناصر فقراء مصر وهم يخبطون رؤوسهم في الحوائط ويهيلون التراب على وجوههم جزعاً عليه وحزناً لرحيله . وقد يقول البعض إن الرجل قد رحل وبلاده مهزومة وأرضها محتلة ولكن ذلك في ظني تحليل مبتور، إذ إن نابليون بونابرت مات مهزوماً سجيناً ومحمد علي ترك الحكم ورحل عن عالمنا وهو يعاني من تقلص إمبراطوريته وحالةالخرف التي سيطرت على عقليته .

* ثالثاً: إن المواجهة الحادة والصدام المعروف بين جماعة الإخوان المسلمين والرئيس عبدالناصر والتي بلغت ذروتها عامي 1954 1965 هي تعبير عن محاولة الاستئثار بالسلطة من جانبه والرغبة في إقصائه من جانبهم، خصوصاً وأن الطرفين كانا يعرف كلّ منهما الآخر جيداً من خلال الشراكة في العمل السري قبل الثورة كما أن عدداً من القيادات البارزة من الضباط الأحرار مر على الحركة بل والتزم بعضهم بفكرها واستمر عليه حتى بعد قيام الثورة . والحقيقة أن تلك المواجهة بين الإخوان والسلطة ليست جديدة، فقد اصطدم الإخوان المسلمون بكل حكومات ما قبل الثورة وما بعدها وما زال الصدام مستمراً حتى اليوم .

* رابعاً: يصعب الحديث عن فترة عبدالناصر من دون الإشارة إلى الدور المحوري للكاتب الصحافي الأستاذ محمد حسنين هيكل وتأثيره في تلك الحقبة، حتى إن كاتباً مثل الأستاذ أنيس منصور قال ذات يوم إن الناصرية هي ظاهرة هيكلية، والواقع أن الأستاذ هيكل هو كاتب وثائق الثورة وخطب عبدالناصر بل إنه كان شريكاً مباشراً بالرأي والمشورة في الأحداث الكبرى والقرارات الصعبة لتلك الفترة وليس ذلك جديداً على الحكام في مختلف العصور، فقد كان لشارل ديجول على سبيل المثال كاتب كبير هو أندريه مالرو يقف إلى جانبه حتى أصبح وزيراً للثقافة في بلاده مثلما أصبح هيكل وزيراً للإعلام في مصر .

* خامساً: يجسد عبدالناصر في الضمير العربي رمزاً شامخاً للكبرياء القومي، فالعالم المعاصر لا يحب ويكره ولكنه يحترم أو يستخف، ومازلنا نتذكر ذلك العبور الوحيد الذي قام به عبدالناصر للمحيط الأطلسي لحضور دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة عام ،1960 فبينما كان يجلس على مقعده أثناء اجتماع الجمعية إذا بسياسي كهل يمضي بين الصفوف بشاربه الأبيض حتى وصل إلى مقعد عبدالناصر فانحنى أمامه وقدم نفسه قائلاً: سيدي أنا هارولد ماكميلان رئيس وزراء المملكة المتحدة ولم يكن ذلك غريباً لأن عبدالناصر هو الذي أطاح بسلفه أنتوني إيدن بعد مؤامرة السويس، ومازلت أذكر أيضاً عندما جاءت زميلتي الدكتورة هدى جمال عبدالناصر إلى لندن لتجمع مادة علمية أثناء إعدادها لدرجة الماجستير وكنت في استقبالها بحكم الزمالة الدراسية والاحترام الذي أكنه لها ولزوجها حاتم صادق وهو زميل في دراستنا الجامعية أيضاً وفوجئت يومها بضابط الجوازات عندما قرأ الاسم في جواز السفر يسألني هل هذه السيدة ذات صلة بالرجل العظيم من دون أن يسميه فقلت له نعم إنها ابنته الكبرى فانتصب من مقعده ومنحها على جواز السفر تأشيرة إقامة مفتوحة في إجراء غير مسبوق ولا عجب، فالكولونيل ناصر هو الذي جرت على يديه بعد حرب السويس تصفية آخر معاقل الإمبراطورية التي كانت لا تغيب عنها الشمس .

. . ذلك هو عبدالناصر البطل الأسطوري صاحب الكاريزما الطاغية التي أغلقت العيون وأعمت الأبصار أمام رجل من صعيد مصر قاد تنظيم الضباط الأحرار وغير وجه التاريخ على أرض الكنانة ثم قضى إلى رحاب ربه بما له وما عليه ولكن لا تزال صوره معلقة على الحوائط الكالحة لمنازل الفقراء والمستضعفين في مصر وأقطار الوطن العربي، وقد يقول قائل إن عطاءه للعروبة يفوق عطاءه لوطنه مصر ولن نختلف كثيراً عند هذه النقطة لأننا ندرك أن الرجل كان مؤمناً أن دولته جزء لا يتجزأ من أمته لذلك حارب في اليمن وصنع أجواء الحرب الباردة العربية التي استنفدت طاقاته وقدمته لقمة سائغة لضربة ،1967 وإن كان لي من ملاحظة أخيرة فإنني أعيب على الثورة المصرية التي قادها عبدالناصر افتقادها للحس الثقافي رغم أن من بين رجالها واحد مثل ثروت عكاشة إلا أن تعاملها مع تراث الأسرة العلوية وتغييرها لأسماء الشوارع والعبث بالقصور الملكية هي في مجملها عملية خروج عن النص الحضاري وإهدار لثروة قومية لا تعوض . . رحم الله عبدالناصر بطلاً قومياً فريداً ورحم الله السادات رجل دولة من طراز مختلف .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"