عزلة الإنسان.. وفهم جديد للفردانية

03:15 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. علي محمد فخرو

قيل وكتب الكثير عن التغيرات الحياتية والفكرية في مجتمعات العالم التي قد تتحقق، وإن بدرجات متفاوتة، بعد أن يصل وباء فيروس كورونا إلى نهايته. وبُنيت تلك التوقعات على أساس ما يمكن أن يصل إليه الإنسان من قناعات جديدة بشأن بعض الأفكار، والسلوكات، والقيم، والنظم التي أنشأتها حضارة العصر، وقبل الإنسان أن يعيش ضمن معطياتها، أحياناً عن قناعة، وأحياناً عن إرغام.
ومن بين أبرز تلك المعطيات التي طرحت كشعار حياتي، وجُندت الوسائل لإقناع عموم الناس بقبوله وممارسته كنمط حياتي، كان شعار الفردانية المنغلقة على الذات، المحكومة بإملاءات حب النفس الأناني، غير المعنية بحاجات وظروف الآخرين، مالكة حريتها المطلقة في التعبير، والتصرف، وبالطبع، بل، وفي المقدمة، الممارسة للاستهلاك النهم المجنون لكل ما تنتجه ماكنة الرأسمالية العولمية من بضاعة مادية، أو خدمية، أو ترفيهية.
أفصحت عن ذلك الشعار رئيسة وزراء بريطانيا السابقة، مارجريت تاتشر، عندما أعلنت أنه لا توجد مجتمعات، وإنما يوجد فرد. فرد معني بنفسه، أو أصبح ذلك القول، عبر الخمسين سنة الماضية على الأخص، جزءاً أساسياً من الثقافة العولمية النيولبرالية الرأسمالية.
الآن، والمليارات من البشر تنصاع، خوفاً وهلعاً من زحف ودمار وباء كورونا، لتوجيهات وقرارات الكثير من الحكومات بالبقاء في مساكنهم، ومواجهة وحدتهم الذاتية، ومحدودية حريتهم الشخصية، ألن يقود ذلك إلى البدء بطرح الأسئلة حول الإعلاء المجنون للفردانية، والإنزال الغريب لأهمية ومكانة الاجتماع البشري بمؤسساته، ومجتمعاته؟
لا يمكن للعاقلين من أولئك المعزولين في بيوتهم إلا أن يلاحظوا كيف أن حدثاً كبيراً عالمياً، حاملاً لأخطار هائلة، غير عابئ بالفروقات الطبقية والاجتماعية والعرقية والحضارية، قد أظهر في واقعهم اليومي الذي يعيشونه الآن أن المبالغات السابقة في مدى حرية الإنسان، واستقلاليته الفردية، وعدم حاجته للغير، وصدقوها، كانت وهماً يجب أن يفيقوا منه.
ذلك أن فيروساً صغيراً قد استطاع أن يسلب الفرد منهم ما كان يعتقد أن لا أحد يستطيع سلبه، أي حرية الحركة والذهاب إلى حيث يشاء من دون عائق، وجعله يدرك أن حريته تلك مرتبطة أحياناً بحرية الآخرين، وأن قراره الفردي محكوم بقرار الآخرين.
في وحدته، في عزلته في بيته، لا بد أن فردانيته عرفت معنى الشوق لجلسة عائلية تسليه، لأصدقاء يبعدون عنه الضجر، ويشاركونه في مصابه، بينما أدركت أن شبكات التواصل الاجتماعي، ليست قادرة على أن تحل محل ضمة الحنان، وابتسامة الإشفاق والتعاطف، ودفء النفس وهو ينتشر مع الكلمات والضحك، والتي وحده، الاجتماع البشري، قادر على أن يأتي بها برداً وسلاماً على حياته.
عند ذاك، وإن بشكل غامض، سيشعر ذلك الإنسان بفشل المبدأ الصنم المقدس للفردانية في إعانته والتخفيف من وحدته، وسيدرك أهمية أن يعود إلى الحياة شعار الوجود الجمعي الذي يمثل المصلحة العامة، ويعلي من فضيلة التعاضد والتعاون، بدلاً من رذيلة التنافس التي نادت بها ثقافة الفردانية بهوس ومبالغة.
عند ذاك ستنجلي الأهمية الاجتماعية الكبرى للتوازن بين حرية الفرد، وبين انصياعه لإرادة المجتمع وحاجات المصلحة العامة.
عبر عدة قرون ظلت فردانية الإنسان، تعريفاً وهدفاً وسلوكاً، جزءاً أساسياً في مسيرة تنقلات إنسان الحضارة الغربية المهيمنة على العالم، من إعلاء شأن الإيمان، إلى إعلاء شأن القوة الداروينية، إلى الاعتماد الكلي على العقل والعقلانية التقدمية العلمية، لينتهي به المطاف إلى عقلانية السوق والرذائل المصاحبة له. وفي كل مرحلة حاول الإنسان الرسو على فهم موزون موضوعي إنساني للفردانية، خصوصاً بشأن ارتباطها بقيمتي الحرية والعدالة.
الآن، وقد أثبت وباء كورونا للإنسان أن فهمه للفردانية لا يزال مملوءاً بالنواقص والعلل، هناك أمل بأن يفتش الإنسان عن فهم آخر للفردانية: فهم قائم على تشابك وتناغم بين جوانب الحرية والعدالة والتضامن الإنساني والعقلانية الحكيمة والتواضع أمام جبروت الطبيعة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"