عندما اصطدمت بزجاج القاعة الملكية في «العقبة»

03:06 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. مصطفى الفقي

حين يفتش المرء في صندوق ذكرياته فإنه يقف عند بعضها مبتسماً أحياناً، وعبوساً أحياناً أخرى. وحين يقلب المرء في دفاتره القديمة فإن (صندوق الدنيا) يبدو مفتوحاً أمامه، ويرى ما لم يره من قبل، ويدرك ما كان عاجزاً عن فهمه وقتها، وها أنا أضع أمام القارئ بعض النوادر من دهاليز السياسة وكواليس الدبلوماسية اللتين قضيت فيهما جل عمري. ولا شك أن فترة عملي في مؤسسة الرئاسة تبدو أكثر إثارة من غيرها، ومع ذلك فإن ذكرياتي في سفاراتنا بالخارج وفي البرلمان المصري وأيضاً على المستوى الأكاديمي تبدو هي الأخرى موضع اهتمام لمن أراد لنفسه أن تكون حياته أفقية عموماً، ورأسية في تخصص بذاته مثلما فعلت، وأبدأ بقصة طريفة حدثت لي في مدينة العقبة الأردنية؛ حيث كانت اللقاءات الدورية منتظمة ومتبادلة بين الرئيس الأسبق «حسني مبارك» والعاهل الأردني الراحل «الحسين بن طلال»، وكانت تتم في الجانب الأردني، إما في «عَمّان»، وإما في «العقبة»، وتجري في مصر أحياناً، في «القاهرة» أو «الإسكندرية» أو «شرم الشيخ». ولقد تميزت أخلاق الملك الأردني الراحل بالرقي والفروسية، وكان معروفاً بالعفو عن خصومه عند المقدرة، وحبه لمصر التي درس فيها ب (كلية فيكتوريا)، كما كان يتميز بالأدب الشديد والتواضع الزائد. وبغض النظر عن بعض الخلافات مع سياساته، إلا أنه كان حاكماً ثقيل الوزن بعيد الرؤية، وكان الرئيس الأسبق «مبارك» يقدره، وتتسم مباحثاتهما بالصراحة والوضوح والاحترام المتبادل. وفي إحدى زيارات الرئيس المصري للملك الأردني في مدينة «العقبة» كان الزعيمان يجلسان في صالون مغلق، ولكن بابه الكبير من الزجاج الشفاف، وكان الرئيس «مبارك» يناديني أثناء اجتماعاته المغلقة؛ لكي يسأل عن معلومة أو يطلب مني تذكيره بأمر معين، وقد دق الجرس وأخذ الرئيس «مبارك» ينادي باسمي، فاندفعت تلقائياً نحو الباب الزجاجي وأنا لا أراه بسبب شفافيته وكأنه جزء لا يتجزأ من الحائط الزجاجي كله، وكانت النتيجة ارتطام وجهي بشدة بذلك الباب الزجاجي؛ حتى كدت أفقد الوعي، فإذا بالملك الأردني يندفع في تلقائية واضحة، وتواضع هاشمي معهود؛ ليمسك بيدي ويطلب طبيبه فوراً الذي قرر أن ما جرى هو مجرد رضوض خفيفة، ولكن الصدمة العصبية الناجمة عن الارتطام المفاجئ هي سبب حالة الدوار التي شعرت بها في البداية، وقد أمر الملك في الحال بوضع ملصقات بصورة التاج الملكي على أجزاء الباب الزجاجي؛ حتى يدرك كل قادم أنه مغلق، وظل الملك يربت على كتفي، ويجلسني بجانبه؛ في محاولة لإخراجي من ذلك الموقف الذي فوجئت به، حتى أن الرئيس «مبارك» قال له: كفى يا جلالة الملك إننا لن نستطيع تشغيل مصطفى الفقي بعد ذلك؛ فلقد دللته جلالتك أكثر مما يجب! والملك يبتسم في حنو وأدب شديدين، وربما أرجع ذلك إلى أننا - الملك وأنا - مولودان في يوم واحد هو الرابع عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني 1935 بالنسبة له و 1944 بالنسبة لي، رحمه الله لقد كان ملكاً عظيماً يرجع إليه الفضل في بناء الأردن الحديث. وأنا أحكي هذه القصة الآن؛ لكي أشير إلى ذلك النوع من الأحداث النادرة التي يفاجأ بها المرء في حياته، وتترك أثرها بعد ذلك لتختزنها الذاكرة سنوات طويلة، ويهمني هنا أن أشير إلى ما يلي:
أولاً: إن تواضع الحكام هو من تعاليم الأديان، فنحن نتذكر عندما أرسل أحد الخلفاء إلى واحد من ولاته قائلاً له بشكل مباشر: (إما اعتدلت وإما اعتزلت)، وقال خليفة آخر لوليه في أحد الأمصار: (افتح بابك وسهل حجابك)، وهذه كلها دعوات إلى التواضع المطلوب، والاقتراب من الناس، وعدم الانجراف وراء زهو السلطة وبريق المنصب.
ثانياً: إن الهاشميين في معظمهم، وهم من أشراف «مكة»، يتصفون غالباً بالأدب الجم والبساطة الشديدة، ولقد اقتربت من الأمير «الحسن بن طلال» عندما كان ولياً لعهد الأردن لمدة تزيد على ثلاثين عاماً، ورأيت فيه العلم الغزير، والإقبال على الناس بشكل يثير الإعجاب ويدعو إلى الاحترام، ولا غرو فهو شقيق «الحسين» الذي عفا عن خصومه، وخلع عنهم بدلة الإعدام؛ ليتبوّأوا مواقع في السلطة حوله، وهو الذي ذهب إلى السجن، وأحضر معه «ليث شبيلات» الذي كان متهماً بانتقاد الملك والعيب في ذاته، فأخذه الملك بسيارته إلى بيت أمه؛ كي تقر عينها ويشعر الملك أنه ورعاياه أسرة واحدة.
ثالثاً: لقد استطاع الهاشميون إقامة مملكة متميزة في شرق الأردن، يشيد بها الكثيرون في الغرب وفي الشرق، حتى أن جنازة «الحسين بن طلال» كانت مظاهرة دولية حاشدة لملوك ورؤساء دول العالم.
هذه ذكريات أثارها حادث الحائط الزجاجي، ولم تغب عن ذاكرتي رغم مرور السنين.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"