عن أي قدس نتحدث؟

01:48 صباحا
قراءة 5 دقائق

لعل القدس، هي الفرصة الأخيرة، لتصويب خلل مميت في أسس التسوية السلمية، من خلال إعادة المسألة إلى حظيرة القرارات الدولية الخاصة بالقضية الفلسطينية، وهي قرارات صدرت للتنفيذ، لا للتفاوض والمساومة . من دون ذلك، سنكون مثل الذي يكتب على الماء .

إسرائيل اليوم، تنفرد انفراداً كاملاً بموضوع القدس الشرقية، بعد أن انتزعتها من حيز التداول، مع الطرف الفلسطيني المقابل، واستدرجته إلى عجز كامل خلال العقدين الماضيين .

وواهم من يعتقد أن عدة مئات من ملايين الدولارات، يمكن أن تحدث أثراً في حماية القدس الشرقية، لسبب بسيط، أن هذه الأموال، لن يسمح لها بالوصول إلى القدس، أو التشغيل فيها، من دون إذن إسرائيل، لأن التعامل المقدسي يتم وفقاً للقواعد والقوانين الإسرائيلية، منذ أن قررت إسرائيل ضمها في عام 1980 .

فالمقدسي الفلسطيني هو أجنبي يحمل بطاقة إقامة، وتقدم له إسرائيل الخدمات من صحة وتعليم وتأمين اجتماعي إلزامي، ويخضع لقوانينها ونظمها .

القدس الشرقية اليوم، منزوعة تماماً، من حيز التداول السياسي والقانوني الجادين، ولا يُشغل العالم في الوقت الراهن، سوى كيفية إدارة الأماكن المقدسة في هذه المدينة، وفي أحسن الأحوال، توفير تسوية تنظم ما يسمى السيادة الدينية، أي الإدارة المدنية للأماكن المقدسة (مسلمون ومسيحيون ويهود) .

هكذا انتزعت القدس الشرقية من السياق العام لمسألة الاحتلال حتى صارت مجرد مجال مقدس، ربما تقام في إطاره إدارة مشتركة تضم ممثلين عن الأديان الثلاثة .

وفي أقصى حالات الكرم الإسرائيلي، يمكن أن تكون هناك سيادتان، الأولى دينية (سماوية) لساحة الحرم والبلدة القديمة وكنيسة القيامة، والثانية وظيفية في الأحياء العربية، ولا تمتد هذه الأخيرة على الأرض . بمعنى وضع المدارس الفلسطينية تحت إشراف سلطة التعليم الفلسطينية على سبيل المثال في حالة بقاء تلاميذ في هذه المدارس المتهالكة، بعد الطرد والعزل وانتشار المخدرات والبغاء في شوارع القدس، وبين شبابها وتفتت نسيجها المجتمعي والمعماري والنفسي والديموغرافي .

إنه خلل مميت، أصاب الرؤيتين العربية والفلسطينية منذ زمن طويل، فصارت لدينا قراءات مضللة ومغلوطة لمسألة القدس الشرقية، فتشتتت التعريفات والأوصاف، مما خدم السياسات الإسرائيلية والخطاب الإسرائيلي الموجه إلى الداخل والخارج .

ومن بين هذه القراءات المضللة:

(أ) نتحدث عن القدس الشريف، ولا نحدد مدلولاته القانونية والجغرافية، ولا ندري إن هذا هو مفهوم عثماني بحت، ولا يعني سوى البلدة القديمة المسوّرة، أما القدس وفقاً للمفهوم الجيوبولتيكي، فقد تطور منذ القرن التاسع عشر حتى اليوم، وفي عهد الانتداب البريطاني وصلت مساحتها نحو 20 كم،2 وحينما قسمت في عام ،1948 بلغت مساحة الجزء الشرقي 605 كم،2 أما الجزء الغربي فهو نحو 38 كم،2 أما مساحة الحرم فهي لا تزيد على كيلومتر مربع واحد .

بمعنى آخر، إن القدس الشرقية، وفقاً لقرار مجلس الأمن ورقم ،590 فهي القدس التي احتلت في عام ،1967 والتي تبلغ مساحتها ستة كيلومترات ونصف الكيلومتر، أما القدس التي تتحدث عنها إسرائيل، فهي القدس الكبرى التي توسعت على حساب أراضي الضفة الغربية المحتلة، وبعضها كان غير مأهول، لكنها أراض تابعة لقرى قضاء القدس مثل شعفاط وبيت حنينا وعناتا . وهي القدس التي ينطبق عليها قرار مجلس الأمن رقم ،242 كأراضٍ محتلة، وقد وصلت مساحتها الآن إلى نحو 840 كيلومتراً مربعاً، أي نحو 15% من مساحة الضفة الغربية . وحينما تأجل موضوع بحث القدس، في مفاوضات التسوية، كانت مساحتها، بعد التوسع الأولي، نحو سبعين كيلومتراً مربعاً .

(ب) ومن القراءات المضللة، تسويق القدس في العالم الخارجي، كمجرد مكان للعبادة، وهذا هو ما يشغل العالم الغربي بشكل خاص، وخلال هذا التضليل أمعنت إسرائيل في استيطانها ومصادرة الأراضي وتهويد معالمها وعزلها عن محيطها واقتلاع أصحابها، ونجحت في تأجيل بحث مسألة القدس، وتغيير مرجعياتها، فبدلاً من أن تكون المرجعية هي قرارات الأمم المتحدة، صارت اتفاقيات الإكراه هي المرجعية، وتحول مصير القدس، من أرض محتلة إلى أرض متنازع على إدارة أماكنها المقدسة، وصار عندما تثار مصادرة أراضي القدس في مجلس الأمن، يرد هذا الطلب، باعتبار أن مجلس الأمن، ليس هو المكان الملائم للتعامل مع مسألة القدس .

إن إسرائيل لا تعمل في الخفاء، في ما يتعلق بتهويد القدس، فمخططاتها معلنة، بغض النظر عن ألوان وأشكال حكوماتها، والتطرف ليس مجرد احتمال تمليه الظروف، إنما هو أداة تغيير الواقع، والعمل الدؤوب للانفراد في الموضوع الفلسطيني، بحيث يكون الفلسطيني غير قادر على الفعل، سواء توخى التفاوض أو المقاومة .

(ج) ومن الأخطاء القاتلة، قبول المفاوض الفلسطيني، فكرة التجزئة، والتأجيل إضافة إلى قبوله التفاوض على مضمون ما نصّ عليه القانون الدولي والقرارات الدولية .

ولا شك في أن الخطأ الأساس، سيظل هو الاعتراف الصريح بحق إسرائيل في الوجود، وكان الاعتراف قانونياً مطلقاً de jure يوحي بأن الشعب الفلسطيني يقر إسرائيل على الطريقة التي تفهم بها حقوقها، وكان من الحكمة السياسية والأخلاقية، إذا كان لا بد من الاعتراف، أن يقتصر على الوجود الواقعي ل إسرائيل (de Facto)، وأن يقيد هذا الاعتراف ضمن حدود الشرعية الدولية التي أنشئت إسرائيل بموجبها، وهو قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين .

(د) ومن القراءات الخاطئة أيضاً، إسقاط الحديث عن القدس الغربية، رغم أن دول العالم لا تعترف حتى يومنا هذا بسيادة إسرائيل عليها، ولا توجد فيها سوى ثلاث سفارات أجنبية هي كوستاريكا وسلفادور وزائير .

وما زال العالم يلتزم بقرار الأمم المتحدة الذي أخضع القدس في عام 1947 لنظام دولي خاص، تدار بموجبه من قبل مجلس وصاية دولية، ونصّ القرار رقم 181 على عدم جواز اتخاذ أي طرف القدس عاصمة له، ولم تعلن إسرائيل القدس الغربية عاصمة لها، إلا بعد نحو عام ونصف العام، خلافاً لقرار الأمم المتحدة .

ووفقاً لقرارات الأمم المتحدة، ومنها قرار الجمعية العامة رقم 187 في مايو/أيار ،1948 فإن دول العالم لم تعترف بسيادة إسرائيل على القدس الغربية، رغم اعترافها القانوني ب إسرائيل، وعلى رأس هذه الدول بريطانيا، التي لم تعترف أيضاً بسيادة الأردن على القدس الشرقية، وحدها باكستان التي اعترفت بهذه السيادة الأخيرة .

من أسف، فقد تعاملنا كعرب مع قضية القدس، على مدى العقود الأربعة الماضية، بطريقة غير مسؤولة، ولم تجتهد الحركة الوطنية الفلسطينية، في تطوير ردها وخطابها بشأن القدس، وبخاصة بعد أن انتقل الثقل الرسمي والإداري والمالي إلى رام الله وغزة .

إن ما يجري هذه الأيام، هو الهجوم قبل الأخير على عروبة القدس، كوطن وحقوق ومقدسات، فجهود التهويد تتضاعف، وكذلك الهدم والحصار وفرض الضرائب الباهظة لإجبار الناس على مغادرة بيوتهم، وإسقاط الهوية القانونية عن المقدسيين الذين يغادرون مسقط رأسهم، وسياسة الإحلال الاستعماري على قدم وساق، وعزل القدس عن الضفة الغربية، وعزل المؤسسات عن الناس، وعزل القدس عن المجتمع الدولي، وتزوير تاريخ القدس . . . الخ .

تستطيع أموال عربية، أن ترمم داراً للأيتام من العهد المملوكي، وأن تحيي مكتبات قديمة، وأن تطور مستشفى المقاصد الخيرية، وأن تمول صندوق القدس للدفاع القانوني، وأن تطور دائرة الخرائط والدراسات والتوثيق، وأن ترمم وتطور متحف التراث، وتدعم البرامج الثقافية والفنية، ومكتبات الأطفال ومراكزهم وروضاتهم، وأن تساعد جمعيات خيرية، وأن تشتري فندقاً مفلساً، أو بيتاً قديماً صار مسوراً ببيوت المستوطنين . وعلى هذا المنوال، يمكن إنفاق عدة ملايين من الدولارات، بجانب خطابات الشجب والاستنكار .

لكن ذلك كله، لن يصوِّب الخلل، ويستدرك القدس من الذوبان .

نحتاج إلى إرادة جديدة، ورؤية جديدة وخطوات مسؤولة على مستوى الخطر المحدق بالقدس، هل فات الأوان؟

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"