عولمة الفوضى وسقوط المحظورات

03:27 صباحا
قراءة 4 دقائق
الحسين الزاوي
تحدث وزير الخارجية الفرنسي مؤخراً عن التحولات الدراماتيكية الهائلة التي تشهدها مناطق مختلفة من العالم، ومنها أوروبا وقال بنوع من المرارة، إن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كسر المحظورات بالنسبة للأسس والقواعد التي بني عليها الاتحاد الأوروبي، ومن ثمة فإنه من غير المستبعد أن يعرف هذا الاتحاد نهاية مأساوية حزينة، إذا ما قررت دول أخرى أن تحذو حذو بريطانيا من أجل الدفاع عن مصالحها القومية الضيقة. وأشار قائد الناتو في أوروبا في السياق نفسه إلى أن القارة العجوز أصبحت أحد أخطر أماكن العالم بعد أفغانستان والعراق وسوريا وبخاصة بعد الهجوم الإرهابي الذي تعرضت له مدينة لندن، ومن غير المستبعد أن تشهد أوروبا مزيداً من المخاطر الأمنية بعد عودة العناصر المتطرفة من سوريا والعراق إلى بلدانهم الأصلية في العديد من البلدان الغربية.
وتفصح هذه التصريحات المتشائمة الصادرة عن قادة دوليين كبار، عن مدى التحوّل الخطير الذي بات يشهده مسار العولمة الذي جرى تدشينه من قبل الدول الغربية بزعامة الولايات المتحدة مع نهاية الحرب الباردة في مطلع التسعينات من القرن الماضي، حيث بتنا نلاحظ انتشاراً غير مسبوق للفوضى وعدم الاستقرار في مناطق عدة من المعمورة، بشكل أصبحت تشبه معه مناطق الفوضى، عبر مجمل الخارطة العالمية، الكتل الاستيطانية السرطانية التي تهدد وحدة الأراضي الفلسطينية في المناطق المحتلة.
ومن الواضح في كل الأحوال أن هناك من يسعى إلى توظيف ما يسمى بالإرهاب الإسلامي، ليس فقط من أجل إعادة تشكيل خريطة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وإفراغ المشرق العربي من مسيحييه، بل أيضا من أجل إعادة النظر في الوجود الإسلامي في أوروبا ومجموع الدول الغربية. لا يتعلق الأمر في زعمنا بمحاولة الترويج لنظرية المؤامرة التي يجري اتهام المدافعين عنها بأنهم مصابون بحالة متقدمة من الذهان النفسي، بقدر ما يتصل بمحاولة تقديم توصيف محايد لظاهرة التحوّل الكبير الذي تشهده الجغرافيا السياسية العالمية، نتيجة السياسات التي نفذتها القوى الغربية الكبرى من أجل دعم نفوذها وهيمنتها السياسية والاقتصادية على العالم، من خلال التضحية باستقرار الدول الوطنية التي مثلت صمام الأمان بالنسبة للسلم العالمي منذ نهاية الحرب الكونية الثانية. وذلك من منطلق أن التطرف الديني الذي يتم اتهامه الآن بالمسؤولية المباشرة عن انتشار العنف والإرهاب في العالم، هو في الأساس صناعة غربية بامتياز، وقد جرى تطويره في مخابر استخبارات القوى الكبرى من أجل حسم الصراع ما بين الشرق والغرب في غمرة احتدام المعارك السرية التي ميّزت فصول الحرب الباردة مع نهاية الألفية المنصرمة.
لقد انطلقت إذن، استراتيجية الفوضى من أفغانستان لتنتقل بعد ذلك إلى المنطقة العربية مع احتلال العراق سنة 2003، وصولاً إلى إفرازات وتداعيات ما سمي ب«الربيع العربي» مع بداية سنة 2011، حيث أفضى هذا الحدث إلى فتح أبواب الفوضى على مصراعيها، مع انهيار مؤسسات الدولة في ليبيا وتحوّل الحدود الجزائرية - التونسية مع هذا البلد العربي إلى ساحة مواجهة مفتوحة مع التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود. وتواصل مشهد الفوضى العربية مع فتح ساحات جديدة للموت في سوريا التي يعيش شعبها المسالم أحلك فترات تاريخه المعاصر، وذلك قبل أن ينتقل هذا المشهد إلى سيناء في محاولة من تجار الفوضى الخلاقة، العبث باستقرار أكبر دولة عربية من خلال العمل على نقل مسلسل التفجيرات الإجرامية إلى عاصمة أرض الكنانة في قاهرة المعز. وقد اكتمل هذا المسلسل التدميري مع تورط بعض القوى الإقليمية في المخطط الهادف إلى النيل من استقرار وأمن دول الخليج العربي، عبر العمل على ضرب أسس الشرعية السياسية في اليمن بهدف خلق حالة من الفوضى العارمة في الخاصرة الخلفية لدول مجلس التعاون.
ويمكن القول إن ظاهرة عولمة الفوضى التي تتزامن الآن مع بروز أزمات متتالية في مسار العولمة الاقتصادية والثقافية، استطاعت أن تنشر خلاياها السرطانية في مناطق جديدة من العالم بداية من دول الساحل في إفريقيا، مروراً بشبه الجزيرة الكورية وبحر الصين الجنوبي في أقصى شرق آسيا، وصولا إلى حدود روسيا مع دول الناتو في أوكرانيا؛ وانقلبت الأوضاع بشكل مفاجئ لتصبح معظم العواصم الأوروبية أقل أمناً من عواصم الشرق الأوسط، وأدى اتساع دائرة العنف إلى تحوّل النشاط الإرهابي إلى ما يشبه الحوادث العابرة والمألوفة.
وعليه فإن عولمة الفوضى ساهمت في ولادة ما أصبح يوصف ب«عولمة الخوف»، وكان من نتائجها انتشار هذه الحالة الراهنة من الخوف الجماعي التي ترقى في أحايين كثيرة إلى مستوى الفتنة المجتمعية المدمّرة؛ كما فتحت هذه العولمة الباب واسعا أمام دعاة التشدد القومي والديني والعرقي والانعزال الثقافي، وبدأ نجم المجموعات العنصرية والاقصائية في السطوع من جديد، نتيجة تزايد الأصوات المدافعة عن الانغلاق والتقوقع خلف الصور النمطية التي تنتجها الذات المنعزلة عن خصوصيتها وفرادتها المزعومة. وبالتالي فإن الدول التي ما زالت مؤمنة بقيم الحرية والعدل والمساواة، مطالبة الآن بتنسيق جهودها من أجل مواجهة عولمة الخوف والفوضى، ومجابهة النتائج الكارثية الناجمة عن سقوط المحظورات.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"