فتح النوافذ على العلمانية

03:51 صباحا
قراءة 3 دقائق
يمثل استدخال العلمانية كمعطى إيجابي في القاموس السياسي اليومي، نقلة مهمة في صياغة الوعي العام والارتقاء بالسجالات. فلطالما جرى تشويه العلمانية باحتسابها وصفة للانحلال أو الإلحاد، فيما هي طريقة للحكم ولإدارة الدول مع احترام عقيدة المجتمع (أو عقائده في حالة التعدد) وحماية دور العبادة وحق العبادة، وعدم التدخل في الشؤون الدينية، وكذلك مع نبذ التمييز الديني أو العقائدي. وواقع الحال إن العديد من الدول العربية تأخذ بمبادئ علمانية في دستورها كالمساواة بين المواطنين بصرف النظر عن العرق أو الجنس أو الدين، وتجمع بين القضاء المدني الذي ينظر في مختلف أشكال التعديات والمنازعات، وبين القضاء الشرعي المختص بمعاملات الزواج والطلاق والإرث.. للمسلمين وغير المسلمين.

لقد تزايد الاهتمام بالعلمانية في ظروف الاختلاط بين مكونات عرقية ودينية في المجتمع الواحد، وفي ضوء ثورة الاتصالات ووسائل التواصل وزيادة معدلات السفر، والأهم من ذلك في مجرى المنازعات الدينية والعرقية التي عصفت بعالمنا ومنه العالم العربي، ما آثار الحاجة إلى التماس طريقة تضبط التنوع وتوجهه في مسار إيجابي لا تناحري. علماً أن العلمانية لا تشكل بحد ذاتها أيديولوجيا أو عقيدة. وإن كانت بعض الأيديولوجيات تعتنق العلمانية كالنظرية الماركسية. فيما يدين بها على الطرف المقابل ليبراليون وقوميون و رأسماليون. وهذا ما يجعلها عابرة للعقائد كحال العلوم الطبيعية.

في بلد علماني مثل الهند، فإن الحياة الدينية تبقى مزدهرة بغير قيود عليها. لكن الدولة بحكم رعايتها لجميع مواطنيها وتمثيلها لهم، فإنها تتدخل متى وقعت منازعات على أسس دينية، أو في حال قيام جماعة ما، بالتشهير بمعتقدات جماعة أخرى. وبينما تسمح علمانية الولايات المتحدة باستخدام الرموز الدينية، فإن بلداً علمانياً آخر هو فرنسا لا يسمح بذلك في المرافق الحكومية، علما أن الأعياد الوطنية في هذا البلد مستمدة في قسم كبير منها من مناسبات كاثوليكية. وفي بعض الدول مثل ألمانيا فإن هناك أحزاباً سياسية تحمل هوية دينية، لكنها تتقيد بالدستور والقوانين النافذة وبخيارات الناخبين، ولا تنزلق إلى التشهير بمعتقدات الآخرين. أما تسخير الدين ودور العبادة لأغراض سياسية فيبقى ممنوعاً بحكم القانون.
وبعيداً عن هذا فإن تدين المجتمع أو الهوية الدينية للمجتمع، تبقى مصونة في الدول العلمانية كما هو الحال في دول أوروبية عديدة. والغرض أن يحكم الدولة أشخاص طبيعيون يحتكمون إلى الشعب والدستور، لا أن ينبري لهذه المهمة رجال دين يحتكمون إلى اجتهاداتهم ورؤاهم البشرية للشرائع السماوية، أو أن يتمتعوا بحصانة دينية مفترضة تحول دون أي اعتراض على سياساتهم أو أن يقوم هؤلاء بتصنيف الناس على أساس ديني، بدلاً من مبدأ المواطنة والحقوق المتساوية للأفراد.

ويعرف المرء أن الانتقال إلى مبدأ العلمانية في إدارة الحكم، تعترضه عقبات شتى، غير أنه لا مناص في غضون ذلك من المزيد من استلهام مبادئ علمانية، تلتقي في جوهرها مع مقاصد الدين ورؤاه في نشر العدالة وإرساء المساواة وصون كرامة البشر وعمارة الدنيا. خاصة أن التاريخ الإسلامي (بالأحرى تاريخ المسلمين والمجتمعات الإسلامية) لم يعرف الدولة الدينية، وفي المرحلة المبكرة ممثلة بالخلافة الراشدة فتلك المرحلة كانت تمثل في منظور بناء الدول، مجرد شكل أولي لإدارة السلطة أو الدولة.
وبما أننا لا يمكن أن ننعزل عن العالم ونحن جزء منه، وبما أن هذا العالم شديد التنوع، فإنه لا بد من تنظيم التعامل مع التيارات والعقائد والاتجاهات المتعددة وفق منظور يضمن التعايش والاحترام المتبادل، ويحظر تحويل التعددية الثقافية والحضارية إلى مادة للمنازعات الشديدة أو التنافس الخطر الذي يهدد النظام العام والنسيج المجتمعي، كما قد يهدد أصحاب معتقدات معينة في حال تم استضعافها. ولنتذكر في هذا المجال أن المسلمين يشكلون في العديد من دول العالم ومجتمعاته أقلية عددية مقارنة بغيرهم، وأن أنظمة الحكم العلمانية هي من تحميهم كما تحمي غيرهم.

ولا يعني كل ما تقدم أن العلمانية هي الترياق الشافي من كل الأوبئة  والمخاطر. فهي ليست عقيدة أو أيديولوجية شاملة؛ لكنها كطريقة لإدارة الحكم تشكل مدخلاً، مجرد مدخل للسلام الاجتماعي ولتنظيم الحياة الاجتماعية وللتطوير الثقافي الشامل، ولا بد من رفدها بمبادئ الديمقراطية والحكم الرشيد والفصل بين السلطات والمشاركة السياسية وسيادة القانون، وقد أصبحت هذه المبادئ بمنزلة قيم كونية تلتقي عليها الغالبية الغالبة من البشرية، وتراثٍ إنساني حي (رغم حداثتها النسبية) وليست منتوجاً يُنسب لحضارة بعينها. ألم تكن الديمقراطية لعقود قريبة خلت، توصف بأنها سلعة أو حتى بدعة غربية، قبل أن يُسلّم من أطلقوا تلك الأوصاف بحاجتهم لها، ثم تمتعهم بثمراتها في مواطن إقامتهم في المهاجر؟!
محمود الريماوي
[email protected]
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"