فوات الأوان في حياة العرب

03:15 صباحا
قراءة 4 دقائق
لا أعرف إن كان قدر الإنسانية أن تعيش إلى الأبد عبثية ما ردده بطل الروائي الفرنسي ألبير كامو في روايته الشهيرة "السقوط"، من أن الإنسان لا يدرك أهمية الأمور الحياتية "إلا بعد فوات الأوان" .
دعني أسرد مثلين على هذه الظاهرة الوجودية، إذ إن فوات الأوان ليس في جوهره إلا ضياع الفرص .
كمثل أول، أتذكّر أنه عندما كنا طلاباً في كلية الطب في الجامعة الأمريكية في بيروت تجرأت مع بعض من زملائي على طرح السؤال التالي على بعض من أساتذتنا: إنكم ترددون علينا أن مهمة الطبيب ليست علاج الأمراض التي يصاب بها جسد المريض فقط، وإنما مهمته هي الرعاية الصحية الشاملة لشخص المريض التي تشمل الجوانب الجسدية والنفسية والسلوكية والاجتماعية والروحية في ماضي المريض وحاضره . ولكن، يا أساتذتنا الأفاضل، هل إن مناهج تدريس الطب تأخذ في الاعتبار تلك المقولة، فتعدّ طبيب المستقبل الإعداد الشامل اللازم لكي يقوم بتلك المهمة التي ترعى الإنسان وليس مرضه وجسده فقط؟
وكنا نضيف: أليس من المفروض أن يتعلم طبيب المستقبل، إضافة للعلوم الطبيعية والبيولوجية والدوائية والتكنولوجية، العلوم الإنسانية من مثل علم النفس وعلم الاجتماع والفلسفة والآداب والفنون؟ أليست العلوم الإنسانية ضرورية إذا كنا نريد من الطبيب فهم ومواجهة كل العوامل التي تحيط بالإنسان المريض من شخصية وعائلية ومجتمعية وبيئية واقتصادية وحتى سياسية؟ ثم ماذا عن الأشواق الروحية ومواجهة أزماتها؟
تلك كانت آنذاك أسئلة تلاميذية فردية، طرحها الكثيرون في أنحاء العالم بصوت منخفض تجاهلتها كليات الطب في العالم كله على أساس أن الاستجابة لها ستعني ثقلاً إضافياً لمنهج تعليمي طبي كان في الواقع مثقلاً بالكثير من الغثّ في تفاصيله واهتماماته .
لقد مرت العقود تلو العقود حتى فوجئت مؤخراً، بغبطة وفرح، بقراءة خبر مؤداه أن كلية الطب في جامعتنا العتيدة المتميزة بحق قد قررت أخيراً إضافة مقرر جديد للمناهج التي يدرسها طلاب الطب، وذلك تحت مسمى "الأطباء والمرضى والمجتمع" الذي يحتوي على مواضيع في الأدب والفن وتاريخ الطب والتعرف إلى الجوانب الإنسانية من مشاعر ومخاوف وقلق عند المرضى وهم يواجهون رحلة العلاج والرعاية في المؤسسات الطبية . والهدف؟ تخريج طبيب يرعى مريضه بشمولية من خلال فهمه لتعقيدات الحالة الإنسانية وذلك من خلال استعمال أدوات التحليل والنقد والتفكيك والاستقراء المستقبلي التي تستعمل في تدريس العلوم الإنسانية بصورة مكثّفة .
قرار الجامعة جميل ومرحّب به، ومع ذلك دعنا نطرح السؤال التالي: لماذا سمحت جهات كثيرة في العالم كله لمرور العقود من السنين قبل أن تستجيب لأسئلة واضحة وموضوعية طرحت من قبل؟
دعنا أيضاً نعذب أنفسنا، كما تعذب ضمير بطل رواية السقوط، ونسأل عن أعداد المرضى الذين تأذت أجسادهم ونفسياتهم وحياتهم بسبب عدم التعامل معهم بمنهجية الرعاية الصحية الإنسانية الشاملة، وذلك بسبب عدم إعداد أجيال من الأطباء الإعداد المطلوب للقيام بتلك الرعاية؟ ليس في ذلك اتهام أو لوم أو تأنيب لأجيال من أساتذة الطب العظام المخلصين . ولكنه تذكير بفداحة ومأساة السلوك البشري الذي أشار إليه ألبيركامو والذي كثيراً ماينتظر ويتقدم خطوة ثم يتراجع خطوات إلى أن يرى بأم عينه نتائج فوات الأوان وضياع الفرص، وعند ذاك يستفيق، ولكن بعد فواجع تراجيديات فوات الأوان .
ثاني الأمثلة سأذكره باختصار لمحدودية مساحة المقال، ولكن قد أعود إليه مستقبلاً . وهو أيضاً مطروح كسؤال: أليست مهمة النظام التعليمي والتعلمي تخريج طلبة قادرين على فهم مايجري من حولهم، في عوالمهم الخاصة والعامة، بموضوعية وعمق وحساسية إنسانية، حتى يساهموا مع غيرهم في مكافحة الظلم والفساد وإعلاء شأن مبادئ الحرية والمساواة والعدالة؟
إذا كان الجواب بإيجاب فإن المنطق يقتضي تدريس الطلاب مقررات تعوِّدهم على الاستعمال الكفؤ في حياتهم اليومية لمنهجيات التحليل والنقد والتفكيك والتجميع، منهجيات الشك الإبداعي في سبيل الوصول إلى، أو الاقتراب على الأقل من الحقيقة، منهجيات عدم قبول أي فكر أو إيديولوجيا أو معلومات من دون تسليط أضواء العقل عليها لمعرفة خباياها وأقنعتها .
وفي هذه الحالة أليس تدريس المناهج الفلسفية هو الطريق الأفضل لتسليح الطلاب بتلك القدرات التحليلية والنقدية والتفكيكية والتجمعية التي نتحدث عنها؟ أليس من حق أجيال العرب علينا أن نخرج من معارك الماضي العبثية حول الفلسفة التي فجرها الإمام الغزالي ورد عليها الفيلسوف ابن رشد وننتقل، من دون خوف طفولي مصطنع على الدين والأشواق الروحية، لتدريس نظرية المعرفة (علم الايبستمولوجي) التي أصبحت جزءاً من الكثير من مناهج العالم، والتي تعلم الطلاب كيفية التعامل العقلاني مع المعرفة والمعارف من أجل الوصول إلى الحقيقة؟
وحتى لا يغمزني أحدهم فيسأل: لماذا لم تقم بذلك عندما كنت وزيراً للتربية؟
فأجيبه بأنني ما إن انتهيت مع رفاق الدرب من إعداد المعلمين إعداداً مهنياً تثقيفياً ومن التوجه نحو دمقرطة الحقل التعليمي حتى بدأت بالفعل الإعداد لطرح هذا الموضوع، لكن الأقدار أبعدتني عن حقل التربية .
دعنا نعد إلى بطل رواية "السقوط" وصرخة فوات الأوان ونسأل: لو أن النظام التربوي العربي درّس المناهج الفلسفية، وليس تاريخها أو حتى استنتاجاتها، عبر العقود الكثيرة الماضية، فهل كان الجيل العربي الحالي سيقع ضحية الإعلام المضلل الكاذب والسفسطات الطائفية والإيديولوجيات السياسية البليدة؟ هل كان سيكون مكان ل "داعش" و"النصرة" في أرض العرب؟

د . علي محمد فخرو

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"