كي لا تكون «داعشية» بعد «داعش»

02:23 صباحا
قراءة 3 دقائق
الانتصارات التي تحققت وتتحقق ضد «داعش» الإرهابي في العراق وسوريا وليبيا تعود إلى جملة من العوامل في مقدمها أن هذا التنظيم نجح في جمع العدد الأكبر من القوى والأطراف المحلية والإقليمية والدولية ضده؛ وذلك لشدة عداء هذا التنظيم الإرهابي للمشتركات الإنسانية والسياسية والدينية ونزوعه إلى عنف عارِ وذي طبيعة بدائية تستنفر مقاومة هائلة ضده. وثاني هذه العوامل التي أدت إلى اتساع نطاق دحره، تتمثل في استنفاد وسائل الاستثمار السياسي لهذا التنظيم الإرهابي وتسابق الدول والتيارات للنأي عنه. إذ إن هذا التنظيم المتوحش لا يتردد حتى في الوقوف ضد عناصره وأدواته متى بدا أن هناك تبايناً في الرأي فكيف سيكون الحال مع أية أطراف أخرى؟ وثالث هذه العوامل التي أسهمت بصورة ملحوظة في تضييق الخناق عليه، هو التعاون الاستخباراتي عالي الوتيرة بين أوسع مجموعة من دول العالم مع منح مجابهة هذا الخطر الأولوية الحاسمة.
ورابع هذه العوامل التي أفضت إلى تقهقر التنظيم وتشتته، هو الجمع بين أساليب قتالية مختلفة في التعامل معه بما فيها حرب المدن وحرب الشوارع، وبما يشكل ذخيرة معرفية في العلوم العسكرية وفنون القتال ضد تنظيم إرهابي يجمع بين التمركز والانتشار واستخدام المدنيين دروعاً واعتماد استراتيجية الرعب ضد الجميع ابتداء من المدنيين.
ومع التفاؤل بتحقيق نتائج أكبر في المستقبل المنظور ضد هذه العصابة الكبيرة فإن المحاذير تبقى بأن تجدد بقايا هذا التنظيم ذاتها، أو أن تستيقظ خلايا نائمة، أو تتجدد ظاهرة «الذئاب المنفردة». وهي محاذير جدية، وقابلة للتعامل معها؛ وذلك مع الحصيلة الهائلة من المعلومات الأمنية والخبرات الاستخبارية التي تراكمت في السنوات العشر الأخيرة على الخصوص لدى عدد كبير من الدول. ومن المنتظر أن تتواصل حالة التأهب لمحاصرة أية أذرع أو أطراف لهذا التنظيم الإرهابي ومنع إعادة تشكله.
إن الهزيمة التي مني بها هذا التنظيم لاحت منذ بداية ما أعلن عما يسمى«دولة الخلافة» التي لم تلق أية استجابة تذكر بين ملايين المسلمين على امتداد المعمورة باستثناء استجابات فردية معزولة. وبما شكّل هزيمة سياسية ومعنوية مبكرة، دفعت هذا التنظيم إلى التخبط في العزلة؛ وذلك وسط أوسع انفضاض عنه ممزوج بالسخرية من العودة وبطريقة كاريكاتيرية إلى أنظمة حياة وإدارة سابقة مقطوعة الصلة بمنطق الحياة المعاصرة. والآن فإن «دولة الخلافة» هذه قد تقوضت عسكرياً وهيكلياً في مركزها الأول في الموصل ثم في الرقة السورية؛ حيث ما زال للتنظيم الإرهابي بعض القطاعات والجيوب في المدينة الأخيرة. فيما يتعرض لحملة قوية عليه من الجو وعلى الأرض. وواقع الحال أن القضاء على التنظيم الهجين الذي لا سابق له في تاريخنا يشمل انتصاراً باهراً في وجه الظلامية والتوحش، وقد دفعت مدينة الموصل وأهلها ثمناً فادحاً في سبيل التخلص من هذه الآفة الشريرة وتدفع حالياً الرقة ومدينة دير الزور ثمناً مشابهاً للتحرر من ربقة التنظيم المتوحش الذي دأب على التمركز في أوساط المدنيين وفي المرافق المدنية. وهو ما يفسر الدمار الهائل الذي لحق بالموصل ما يجعل إعادة بنائها وتعويض أهلها المنكوبين مهمة وطنية غير قابلة للإرجاء أو المساومة بعد أن فقدت المدينة مصادر الحياة ومظاهرها.
من الواجب في هذه المرحلة التي تختلط فيها مشاعر الألم والأمل وجنباً إلى جنب مع تصفية ذيول هذه الظاهرة الإرهابية، منع «الداعشية» من الظهور مجدداً تحت أي لبوس أو شعار. ونعني ب «الداعشية» هنا الطائفية القصوى المريضة التي تناصب الطوائف الأخرى العداء المقيت لغير ما سبب غير الاختلاف الطائفي. إنه من الأهمية بمكان الوقوف ضد «داعش» ومواصلة الحملة عليها بغير توقف، لئلا ينتهي الأمر بتفريخ «داعشيات» تتسربل بلبوس آخر وشعارات أخرى كي تستنسخ «داعش» بصيغ أخرى؛ وذلك بضرب فكرة القانون العام وتغذية الانقسامات الأهلية وتأجيجها، والاستهانة باستنزاف الموارد المالية والطبيعية والبشرية. إن نقيض «داعش» هو البناء والتنمية وحكم القانون وسيادة مبدأ المواطنة بصرف النظر عن الجنس والعرق والدين والطائفة، ونبذ العنف بصورة كلية وحصرها بالدولة ضمن أحكام القانون وتحت مراقبة السلطة القضائية والبرلمان المنتخب بصورة سليمة تراعي المعايير الدولية.
إن النزاعات الأهلية والطائفية وتجويف الدولة على يد ممثليها أو من خارجها، هي بعض من المناخ «الداعشي» الذي آن الأوان للقطع معه حتى لا يزول «داعش» وتبقى «الداعشية».


محمود الريماوي
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"