لاتفيا تحقق معجزة بانضمامها إلى منطقة اليورو

03:26 صباحا
قراءة 4 دقائق

عانت جمهورية لاتفيا البلطيقية الصغيرة الأمرين خلال الحرب العالمية الثانية التي تركت ندوباً لا تزال بادية ظاهرة على الجسم الاجتماعي إلى اليوم . فقد احتلها النازيون الذين تعاون معهم قسم من السكان سارع ستالين إلى الانتقام منهم بعدما تمكن من قهر النازيين واستعادة البلطيق . وهكذا دفع الشعب اللاتفي غالياً ثمن عمليات التطهير العرقي والنفي والترحيل والمعتقلات وغيرها قبل دخوله القسري في الفلك السوفييتي طيلة نيف وأربعين عاماً . وبعد خروجهم من هذا الفلك في العام 1991 انقسم اللاتفيون بين أصولهم الجرمانية والروسية، بين تاريخين وثقافتين . فبالنسبة إلى الروس منهم، وهم سلافيون، كان النازيون وحوشاً بكل معنى الكلمة، في حين إنه بالنسبة إلى الجرمانيين منهم الوحش الحقيقي كان الشيوعية والاتحاد السوفييتي .
كادت مسألة الهوية أن تفجر لاتفيا لولا مسارعة الاتحاد الأوروبي لمساعدتها وإجبار الطرفين على الدخول في الحوار والمصالحة تمهيداً للاندماج الوطني، كشرط للدخول في الاتحاد . وهذا ما حصل، فانضمت لاتفيا إلى جانب شقيقتيها في البلطيق استونيا وليتوانيا في الاتحاد الأوروبي، العام 2004 . وفي العام 2005 قررت ربط قيمة عملتها الوطنية، ال"لات" بالعملة الأوروبية الموحدة طمعاً في الانضمام اليها مع حلول العام 2014 .
كانت مفاعيل هذا القرار سلبية جداً على الاقتصاد اللاتفي الذي اضطر لتلقي الصدمات القاسية الناتجة عن الأزمة الاقتصادية العالمية والأوروبية . فبين العامين 2008 و2010 تراجع الناتج الاجمالي الداخلي بنسبة ثلاثين في المئة، وهو أسوأ من الركود الاقتصادي الشهير في العام 1929 . ولم تلجأ لاتفيا إلى سلاح تخفيض عملتها المحلية، وهو علاج تقليدي معروف في مثل هذه الحالات، خوفاً من الأثر السلبي في تسعين في المئة من دينها المعقود بالعملات الأجنبية، ما يحرمها من المساعدات الخارجية لاسيما الأوروبية . والحل الذي لجأت إليه هو التقشف عبر زيادة الرسوم والضرائب وتخفيض الإنفاق العام والرواتب . ولكن رغم هذا التقشف (انخفاض الإنفاق على الصحة العامة بنسبة ثلاثين في المئة وعلى التربية بنسبة خمسين في المئة وانخفاض الرواتب بنسبة ثلاثين في المئة في القطاع الخاص وخمسين إلى ثمانين في الماية في القطاع العام . . . إلخ) . ارتفع العجز العام من أربعة في المئة العام 2008 إلى عشرة في العام ،2009 وكان يمكن أن يصل إلى أعلى من ذلك العام 2014 بحسب التوقعات، لو استمرت الأمور على حالها، ما يجعل مستحيلاِ تحقيق حكومة أندريوس كوبيليوس لوعدها بالانضمام إلى منطقة اليورو بداية مع العام 2014 .
وفي مقابل مساعدة أوروبية قيمتها 5 .7 مليار يورو وتحت إشراف صندوق النقد الدولي الذي فرض إعادة هيكلة للاقتصاد، تبنت لاتفيا المزيد من الإجراءات التقشفية القاسية لتنجح أخيراً في الخروج من الأزمة مع نهاية العام 2012 فتحقق معايير الانضمام إلى اليورو: عجز خريني نسبته 2 .1 من الناتج الإجمالي الداخلي ودَين عام نسبته 06 .4 مع نمو لهذا الناتج نسبته خمسة في المئة .كما نجحت برامج مكافحة البطالة التي انخفضت إلى النصف منذ العام 2008 عندما تخطت العشرين في المئة .
المعادلة اللاتفية التي وصفت بالمعجزة، بسيطة وهي تقوم على تقشف شديد جداً وافق الشعب على تحمله في مقابل وعود بفرج قريب بعد الانضمام إلى منطقة اليورو وفي وجود نقابات عمالية ضعيفة عاجزة عن مواجهة الحكومة . مع التركيز على الصادرات التنافسية ومن دون تخفيض قيمة العملة الوطنية . ورغم أن رئيس الوزراء الذي أعيد انتخابه في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، لا ينصح أحداً بتجرع هذا الدواء المر فإنه يمكن الإفادة منها في دول تعاني أزمة مستعصية مثل قبرص واليونان وإسبانيا والبرتغال .
وهكذا، مع بداية العام الجاري، تحقق حلم لاتفيا بدخولها في منطقة اليورو التي أضحى عددها ثماني عشرة دولة . هذه الدولة الصغيرة التي لا يزيد عدد سكانها على 2 .2 مليون نسمة لن تحدث أي فرق في الاقتصاد الأوروبي . لكن انضمامها يحمل قيمة رمزية بالنسبة للأوروبيين الذين يجدون فيه دليلاً على جاذبية تجربتهم الاتحادية وعلى الثقة باليورو رغم الأزمة التي يعانيها . وبالنسبة للاتفيا فهي تستعد للخروج من التقشف إذ وعدت حكومتها بإطلاق برامج إنفاق حكومي ومراجعة الرواتب في الاتجاه التصاعدي، في انتظار أن تتدفق عليها الاستثمارات الأجنبية، لاسيما الأوروبية منها، وأن تتراجع نسب الفوائد على دينها العام الذي صنفته مؤسسة "ستاندارد أند بورز" مؤخراً بأنه "مستقر إلى إيجابي" .
بعد نجاحها في تحقيق الاندماج الوطني غداة الاستقلال في العام 1991 حققت لاتفيا "معجزة" حقيقية في تجاوزها لأصعب الأزمات الاقتصادية قبل الدخول في منطقة اليورو . ومن الآن وصاعداً عليها أن تتفادى بعض المفاعيل السلبية مثل ارتفاع الأسعار وإدارة جغرافيا معقدة تقع بين جارين جبارين، روسيا وأوروبا، اللتين للعلاقة بينهما تأثير كبير في التجارة الخارجية والنسيج الاجتماعي في لاتفيا .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"