لبنان والعراق و«طهاة» القرار

06:04 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود حسونة

«من العراق إلى بيروت ثورة واحدة ما بتموت»، صرخة انطلقت من قلب بيروت دعماً للعراقيين المحتجين في قلب بغداد وغيرها من المدن العراقية. صرخة بل صرخات خاطبت بها طرابلس صور، وتبادلت المدن مشاعر الدعم والألم.. صرخات تؤكد أن العراق ولبنان وجهان لعملة واحدة، وتعبر عن وجع واحد يعيشه الشعبان الثائران على الفساد والطائفية وخيبة الأمل في حكام استحّلوا لأنفسهم ما ليس حقاً لهم، وسمحوا للخارج أن يستبيح الوطن ويتحكم بمقدراته، ويطلق ميليشياته لتعبث وتقتل وتشرد أصحاب الأرض وتنهب الثروة، ليتركوهم عاجزين عن توفير لقمة العيش لأبنائهم، فيتملّكهم غضب الجائع وتمرد المسلوب الحقوق.

لبنان والعراق حالتان تتقاطعان وتشكلان جسداً واحداً، أطلقوا عليه «فيروس الطائفية» أملاً في أن يتمكن منه ويحوله إلى شبح، ولكن الجسد المريض الحر العاشق للحياة والمتشبث بحقوقه، انتفض على مرضه، ومن شدة الوجع والمعاناة جاءت صرخته مدوية وإرادته عاصفة رافضة لأي مسكنات تخفف الألم مؤقتاً، مع إصرار على العلاج الشافي تماماً حتى لو استلزم الأمر بتر الأعضاء الفاسدة مهما كلف الأمر من تضحيات.

عندما جاء بول بريمر وزمرته إلى العراق باسم نشر الديمقراطية، لم يجدوا أمامهم نموذجاً أفضل من النموذج اللبناني لتطبيقه على الشعب العراقي، مدركين أن الوباء الذي هدّ لبنان الحضارة والعلم والجمال، كفيل بأن يهدّ عراق الحضارة والطموح والأمل؛ فوضعوا له دستوراً يكرس الطائفية ويعتمد المحاصصة، وانتقلت ديمقراطية الرئاسات الثلاث إلى العراق، ليتقاسمها الأكراد والشيعة والسنة، توازياً مع المسيحيين والسنة والشيعة في لبنان. نجحوا في لبننة العراق، وتقاسمت شلة الحكم المغانم، وخلقوا فتنة بين الطوائف على نهج لبنان، ويشاء القدر أن يستعيد الشعبان في وقت واحد إرادتيهما، ويخرجا ثائرين على «الطائفية المقيتة» التي تهدم وتسلب الشعوب إرادة الحياة وتحولها إلى أشباح يتربص بعضها البعض حتى تقضي على إنسانيتها.

«الطائفية والفساد» هما العنوان العريض لوجع اللبنانيين والعراقيين، ونتيجة التلاقح بين هذين الوباءين جاءت العناوين أو المطالب الفرعية التي ينادي بها المحتجون في ساحات المدن، فلولا تزاوج الطائفية والفساد ما ارتفع الدَّين العام، وما وقفت الدولتان على حافة الانهيار الاقتصادي، وما عانى الناس من الجوع والعطش والظلام، وما تضخمت ثروات الساسة وأمراء الطوائف.

ردود أصحاب القرار وأمراء الطوائف في البلدين تكاد تكون متطابقة، استقال رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، وبالتبعية استقالت الحكومة كاملة، ويرهن رئيس الوزراء العراقي عادل عبدالمهدي تنحيه باتفاق بين قادة الكتل الداعمة على حكومة جديدة من دون انتخابات نيابية، وسبق ذلك وعود وقرارات بمحاربة الفساد، وتخفيض مخصصات الوزراء والنواب، وحل مشاكل الكهرباء وضمانات بعودتها «٢٤ على ٢٤» حسب وعود قديمة متجددة للوزير جبران باسيل.

لبنان يعد بهيئة لمكافحة الفساد، والعراق لديه الهيئة التي تشكلت سابقاً ولَم تفعل شيئاً مذكوراً، وهل من صنع وارتكب وغض النظر عن الفساد هو من سيحاربه؟ وهل من وعد مراراً بحل مشكلة الكهرباء وعجز، استحوذ فجأة على العصا السحرية للحل؟!

وإذا كانت الوعود والردود الصادرة عن الساسة في البلدين متطابقة إلى هذا الحد، ألا يثير ذلك تساؤلاً عن مدى إمكانية أن يكون المطبخ السياسي الذي يطهى فيه القرار واحداً؟!

لعل الاختلاف الواضح للجميع بين الحالة اللبنانية والعراقية هو عنف العراق في مواجهة المظاهرات وقرارات حظر التجول، وحالة السلمية التي تتواصل بها احتجاجات اللبنانيين، ولعل الفضل في ذلك يعود للجيش والقوى الأمنية .

الخشية كل الخشية على لبنان والعراق، بعد استقالة الحريري ووعد عبدالمهدي المشروط، أن ينجح أمراء الطوائف في حماية أنفسهم ومكتسباتهم بإحياء الفتنة وعودة الفكر الطائفي المناطقي بعد أن سعت بعض القوى الحزبية للتظاهر ضد المتظاهرين، بل والهتاف بحياة زعماء متهمين بالسرقة والنهب، لتقف ساحة ضد ساحة وشارع ضد شارع وفئة ضد فئة، وبدلاً من أن ينجح الشعبان في خلق عراق ولبنان جديدين، يعودان إلى الخلف سنوات، ويغرقان ثانية في بحر الطائفية الجاهز لابتلاع دول وشعوب.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"