لماذا تتشاءم واشنطن من تفعيل العدالة الدولية؟

05:02 صباحا
قراءة 4 دقائق
محمود الريماوي
انضمام فلسطين إلى المعاهدات الدولية خطوة جيدة جداً، واستحقاق بديهي لأصحابه . وأن تعمد كل من تل أبيب وواشنطن إلى الاحتجاج ضد هذه الخطوة، فذلك يدل ابتداء على رفض كل من الطرفين للاحتكام إلى العدالة الدولية . ولئن كان من المفهوم أن تعمد تل أبيب لاتخاذ هذا الموقف لأسباب مختلفة منها السعي لبقاء دولة فلسطين كياناً صورياً، ولتفادي محاكمة السلوك العدواني في الأراضي الفلسطينية المحتلة (الضفة الغربية) وفي قطاع غزة المحاصر، فإنه من غير المفهوم أن تعمد الولايات المتحدة لاستنكار هذه الإجراء، فقياساً الى المعايير الأمريكية المعلنة حول عالم حر تحكمه العدالة ونواميس القوانين، فقد كان ينبغي على واشنطن أن تشجع الطرف الفلسطيني على التحرك بهذا الاتجاه، لا أن تبدي سخطها واستنكارها أن من يتطيرون من اللجوء إلى العدالة هم من لا يعبأون بمعايير العدالة، وبحق المظلومين في الإنصاف، ووجوب محاسبة مقترفي الجرائم والتعديات أياً كانوا . علماً أن احتلال أراضي الغير هو بحد ذاته جريمة كاملة، وإجراء باطل وكل ما ينجم عنه ويصدر عنه بخصوص الأراضي وأصحابها باطل ويفتقد لأي شرعية، ويجافي كل القوانين . أما تهديد واشنطن بوقف مساعداتها فلا يعدو أن يكون شكلاً من الابتزاز الصارخ، والمعاقبة على ذنب لم يُقترف . وبدلاً من أن تعمد واشنطن ومعها المجتمع الدولي لمعاقبة الطرف المعتدي والمحتل، فهي تلوّح بمعاقبة البريء والمعتدى عليه، وللأسف فإنه ليس هناك من وصف ينطبق على هذا السلوك أكثر دقة من وصفه ب "الفجور السياسي"، مع التمادي في تشجيع المعتدي على ارتكاب المزيد من الاعتداءات، عبر مدّ يد الدعم والعون له لتمكينه دائماً من الإفلات من العقاب .
والأكثر إثارة للسخرية هو ما تحدث به ناطقون أمريكيون بأن انضمام دولة فلسطين إلى المعاهدات الدولية عبر التصديق عليها، من شأنه أن يعيق قيام دولة مستقلة . وكأن المطلوب هو أن يقف الفلسطينيون بعد نحو 48 عاماً على احتلال أرضهم مكتوفي الأيدي أمام التغول الاستيطاني والتهويد القسري، بحيث تنهب أراضيهم وتصادر أمام أعينهم ومعها مصادر المياه ومواردها فيما يتم تهويد القدس الشرقية ومحيطها، ويُبنى جدار الضم والتوسع في عمق الضفة الغربية، من دون أن يزعجوا الاحتلال في شيء، وبهذه الطريقة السكونية والسلبية التامة يمكن حسب السادة الناطقين الأمريكيين ضمان إقامة دولة مستقلة . هذا المنطق السقيم والمتهافت يستند إلى الرؤية الأمريكية الرسمية القائلة إنه يمكن تحقيق السلام وإقامة دولة مستقلة عبر التفاوض فقط (مع المحتل) . فإذا ما رفض المحتل هذا الأمر وهو يرفضه، فإن على الفلسطينيين مواصلة التفاوض إلى ما شاء الله، لبضعة قرون أخرى . . وسوى ذلك فإن واشنطن لا تعترف بالحق الفلسطيني الطبيعي القائم بذاته بمعزل عن موافقة الآخرين أو رفضهم . ومثله القول إن السلوك الفلسطيني السياسي لانتزاع الحرية والسيادة هو سلوك أحادي من طرف أصحابه، وكأن "الاسرائيليين" حينما استولوا على الضفة الغربية وقاموا بالاحتلال العسكري والاستيطاني لها منذ عام ،1967 قد فعلوا ذلك بالتفاهم مع الفلسطينيين، وبعد نيل موافقتهم، وليس من خلال سلوك أحادي مفرط في عدوانيته .
الاتفاقيات التي تم التصديق عليها وتسليمها إلى ممثل الأمم المتحدة لاعتمادها في المنظمة الدولية تشمل 14 اتفاقية ومنها اتفاقيات لقمع جريمة الفصل العنصري والمعاقبة عليها، ومنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري واتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية واتفاقيات أخرى تتعلق بمكافحة الفساد ومناهضة التعذيب، واتفاقيات جنيف الأربع والبروتوكول الأول الإضافي والخاص بحماية ضحايا النزاعات المسلحة ذات الطابع الدولي، اضافة إلى اتفاقيات أخرى تتعلق بمنع التمييز ضد المرأة وحقوق الطفل وذوي الإعاقة وغيرها .
وقد كان منتظراً أن تنضم دولة فلسطين إلى هذه الاتفاقيات عقب قبولها عضواً مراقباً في الأمم المتحدة في نوفمبر 2012 أي قبل أكثر من عامين، غير أن القادة الفلسطينيين ارتأوا حينها المناورة واستخدام التصديق أو تأجيل استخدامه كورقة للضغط على واشنطن وتل أبيب من أجل التعجيل بوضع نهاية للاحتلال عبر التفاوض، وجاء الموقف السلبي للجانب الأمريكي في مجلس الأمن مؤخراً ضد مشروع قرار يمنح كحد أقصى مهلة عامين لإنهاء الاحتلال، كي يحزم الجانب الفلسطيني أمره ويزاول حقاً سيادياً له، يستوفي معه بعض الأركان القانونية التي تجسد الالتزام بالقوانين الدولية والعمل بمقتضاها أسوة بأغلبية دول العالم .
ومن المثير للاهتمام أن وسائل إعلام غربية عديدة التقت على وصف هذه الخطوة بأنها جزء من "حرب دبلوماسية" متبادلة، علماً أنها محض وسيلة دفاعية، واستكمال لبعض الجوانب القانونية للكيان السياسي القائم، والمجرمون وحدهم هم من يعتبرون أن تفعيل العدالة، أو اللجوء إليها يشكل حرباً عليهم أو شكلاً من أشكال الحرب .
على الفلسطينيين الآن ومن أجل استثمار هذه الخطوة المنوطة بموافقة الأمم المتحدة عليها بعد مضي شهرين على تقديم الوثائق الخاصة بها، إعداد ملفاتهم جيداً، وعلى الخبرات الفلسطينية في العالم في مجال القضاء والقانون الدولي، أن تتجند لخدمة قضية وطنها وشعبها، بصرف النظر عن المواقف السياسية الخاصة، أو الموقف من السلطة الفلسطينية، فالانتصار للقضية الوطنية ومقارعة المحتلين يتقدم على أي اعتبارات فئوية أو عقائدية .
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"