مؤشرات خواء روح الأمة

05:10 صباحا
قراءة 3 دقائق

كيف يفسِّر الإنسان تلك المفارقة المثيرة للاستغراب والدهشة والتساؤل؟ ففي حين يبتعد الكثيرون من المفكرين والكتّاب والإعلاميين والساسة ومؤسسات المجتمع المدني التعليمية والبحثية والاقتصادية في الكثير من مجتمعات العالم، وعلى الأخص العالم الغربي، عن ولاءاتهم السابقة للكيان الصهيوني، وعن مواقف الاسناد للكثير من مؤسساته وأفراده العاملين في فلسطين المحتلة، فإن العكس يحدث في دول عربية .

هناك، في المجتمعات التي تحترم نفسها، أدرك الكثيرون بشاعة الأسس التي قام عليها النظام العنصري النازي الصهيوني، وتبيّن لهم بصورة جلية ان من يدعون أنهم كانوا ضحايا النازية في ألمانيا قد انقلبوا من دور الضحية إلى دور الجلاد القاتل المجرم بحق الشعب الفلسطيني الأعزل، فأقاموا أفران الموت ومارسوا الهولوكوست الصهيونية فوق كل فلسطين وفوق كثير مما حولها من أرض عربية . وكانت محرقة غزة الشيطانية وحرق الأرض ومن عليها في الجنوب اللبناني قمة فتح العيون والبصائر .

أما عندنا، نحن الذين تابعنا مسيرة الحركة الصهيونية الاستيطانية منذ نشأتها في ديار الغرب ومنذ اغتصابها لأرض فلسطين، واجتثاث شعبها وتاريخها وثقافتها، نحن الذين فتحنا عيوننا على رؤية مخيمات اللاجئين البائسة، وفجعنا المرة تلو المرة بالحروب الهمجية التي شنها الكيان الاستعماري ضد الأمة العربية بمساعدة وإسناد أعتى دول الغرب الامبريالية، وعايشنا عبر ستين سنة موت الألوف من أطفال ونساء وشيوخ فلسطين العزل وسجن الألوف من شباب فلسطين المقاوم المجاهد، نحن الذين عرفنا كل ذلك ودرسناه في مدارسنا وشاهدناه يومياً على شاشات تلفزيوناتنا وخرجنا في مظاهرات حاشدة للتنديد به، نحن ننسى كل ذلك، وبمفارقة مذهلة مع ما يفعله الشرفاء في كل العالم، ونتقدم يومياً لنصافح تلك اليد الملطخة بدماء إخوان لنا ونتعامل مع أبطال كل تلك المآسي من مجرمي الاحتلال لأرض فلسطين .

لن نذكر بالاسم الذي يجري في بعض الأقطار، إذ ان الكل يستطيع الاشارة باصبعه إلى ذلك البلد أو تلك الحكومة أو أولئك القلّة في مجتمعاتنا المدنية والممارسات تمتد من حضور بعض الساسة وبعض الأكاديميين والكثير من أصحاب المال والاقتصاد التابعين لجنسية الكيان الصهيوني، إلى وجود بضائع مصنوعة في الكيان الغاصب، وتباع علناً في أسواقنا، إلى اجتماع بعض المسؤولين مع أعتى عتاة المساندين للصهيونية في الغرب، إلى السماح لمؤسسات اقتصادية ومالية صهيونية بالعمل تحت مسميات وجنسيات غربية ملفقة ومخادعة . وهذه الممارسات، وغيرها كثير، تجري بوتيرة متصاعدة تتراكم وتتجذر لتصبح شيئاً عادياً في حياة شباب المستقبل .

السؤال المحيِّر: هل حقاً اننا نحتاج إلى حضور هؤلاء، وأننا لا نجد في العالم من هو في مستواهم أو حتى أفضل منهم، خصوصاً أن هناك من يدعون بحاثة، كأنه لا يوجد في العالم غير الصهاينة، مع أن هناك من هم أفضل منهم؟ ألا تعني تلك الممارسة المشبوهة فقدان كل التزام وطني وقومي وإسلامي وإنساني تجاه شعب فلسطين؟ أليس بمفارقة أنه في هذا الوقت كانت الكثير من المؤسسات الجامعية والبحثية في الغرب تقاطع جامعات ومراكز البحوث الصهيونية احتجاجاً منها على مذابح غزة، والقتل اليومي لأبناء وبنات فلسطين؟

إذن، فالغرب يفتح عينيه ويرى حقيقة البربرية الصهيونية في فلسطين المحتلة، أما نحن فتعمى بصائرنا عن كل ذلك، وعن الاعتبار بتاريخ طويل من عذاباتنا مع مافيات الصهيونية .

كنا نعتقد بأن حكوماتنا تمارس التقرب والتفاهم مع الكيان الصهيوني بسبب الضغوط الأمريكية المتواصلة عليها، فما تفسير انتقال تلك العدوى إلى بعض مؤسسات المجتمع المدني، وإلى بعض الأفراد؟

نحن نعرف جيداً أن تاريخ التنازلات والتهاون تجاه المجرمين، سواء من قبل الحكومات أم من قبل المجتمعات، لا يؤدي إلا إلى السقوط في وحول فقدان الذات الوطنية والقومية والدينية . وعلى الشرفاء أن يلعبوا دورهم أمام هذه المفارقة التي نحن بصددها، إذ إنها من مؤشرات خواء روح الأمة، وعندما تفقد الأمة روحها، تفقد مبرر وجودها .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"