ماذا تبقى في المخيال العربي من الدروس الديغولية؟

04:19 صباحا
قراءة 8 دقائق

(1)

عوّدتنا فرنسا منذ ثورتها الكبرى، التي دشنت بها عصراً جديداً للبشرية، أن تقدم إسهامات عبقرية جيلاً بعد جيل.

فرنسا النور والتنوير والثقافة، ومبادئ الحرية والمساواة والإخاء، قدمت للعالم بعد قرن من ثورتها، شخصية فذة، هو شارل ديغول، كبطل للخلاص في الداخل وفي الخارج. فقاد مقاومتها الوطنية لهزيمة الاحتلال الأجنبي، كما قاد فرنسا الى ما يسمى بسلام الشجعان مع مستعمراتها القديمة، وهو أول من صك هذا المصطلح في العصر الحديث، وكان ديغول بطل الخلاص، صاحب نظرة ثاقبة للتاريخ، وريادياً في إدراك أن عصر الاستعمار قد ولّى الى غير رجعة، بعد أن أثبتت الشعوب جدارتها في الحرية والاستقلال.

بفضل شجاعة وحكمة شارل ديغول، وبقيادته، أدركت فرنسا في الستينات من القرن العشرين روح الإنصاف التاريخي للشعوب، بعد أن عادت الى امتلاك حريتها واستقلالها بفضل روح التصميم والتضحية في اربعينات القرن الماضي.

وبقدر ما كان شارل ديغول المسكون بفرنسا على حد تعبير أندرو مالرو، بطلاً منقذاً لوطنه، مجدداً لحيوية شعبه الفرنسي، معيداً إليه دوره ورسالته الحضارية، بقدر ما كان رجل دولة يتجاوز عصره وصاحب رؤية مستقبلية ثاقبة، فاستشرف مبكراً المستقبل الأوروبي موحداً ومتميزاً بين قوتين عظميين متنافستين في ظلال حرب باردة، ووعى دروس التاريخ، واستحضر من القرن التاسع لحظات تألق وصداقة بين العرب وفرنسا، في عصر هارون الرشيد وشارلمان العظيم، ليعيد تصويب هذه العلاقات في عام 1967 بعد أن اختلت بوصلتها السياسية لعقود طويلة، ليكون الزعيم الغربي الوحيد الذي يدين بشجاعة عدوان إسرائيل المسلح على مصر وسوريا والأردن، ويوقف شحن السلاح الفرنسي إلى إسرائيل. ويفتح الطريق أمام صداقة وتعاون وثقة متبادلة بين العرب والفرنسيين.

(2)

ما الدروس التي بقيت في مخيال الأجيال العربية من الديغولية؟

حينما ألقى دومينيك دو فيليبان Dominique de Villepin خطابه التاريخي في الأمم المتحدة في فبراير/ شباط ،2003 ليسمع العالم صوت فرنسا الرافض لغزو العراق. تواترت الكتابات التي تنبئ بعودة الروح الديغولية الى الدولة الفرنسية، وتذكرت الأجيال العربية الشابة الدروس المستفادة من الإرث الديغولي والتي أهمها: القيادة الطليعية، التي لديها قدرة هائلة على الإحساس بتطور التاريخ وقوانينه، والتي لا تستسلم للواقع بمنظور يهمل حركة التاريخ، ولا تتجاهل حقوق الشعوب في تقرير مصيرها، وقد تذكرت هذه الأجيال، كيف فتح ديغول الأبواب أمام فرنسا للعبور المحترم إلى العالم الثالث، من خلال منظور التعاون والتبادل المتكافئ، والتفاهم الإنساني، وليس من منظور الهيمنة الاستعمارية.

مشروعية مقاومة الاحتلال الأجنبي، وهو درس ديغولي بامتياز، يعني وضع الثقة في الإنسان وفي نزعته نحو الحرية والعدالة، وحقه في المقاومة، دفاعاً عن المصلحة العليا للوطن، بعيداً عن منطق الحسابات الحزبية الضيقة أو الجماعات الضاغطة.

الدعوة لإعادة هيكلة النظام العالمي والعلاقات الدولية، بحيث لا يبقى رهينة للقطبية الثنائية.

وهو درس ديغولي آخر، يستحضره العالم الآن، معارضاً للقطبية الأحادية. وقد عمل ديغول على تحقيق استقلالية نسبية لسياسة فرنسا عن شاطئ الأطلسي، وعلى صياغة قوية للسياسات الأوروبية، ومارس هذه السياسة عملياً، بدءاً من سحب الأسطول الفرنسي من القيادة الأطلنطية في البحر المتوسط، وخفض الوجود النووي الأمريكي في أوروبا، والانسحاب من القيادة المشتركة لحلف الإطلنطي عام ،1969 مع استمرار المشاركة في الإطار السياسي للحلف.

(3)

إن من عظمة شارل ديغول، أن استحضار سيرته، تفتح أمامنا مجالات متجددة للنظر في أمور تتجاوز شخص هذا الزعيم التاريخي، فنتعلم من سيرته الدروس والعبر، وحينما نحكم عليه، ينبغي أن نحكم بمعيار عصره، وليس بمعايير عام 2008. لقد تطور ديغول من نهاية العشرينات في القرن الماضي، كضابط احتلال في سوريا ولبنان، إلى مناضل ضد الاحتلال ومقاتل من أجل حرية واستقلال بلاده في النصف الأول من الأربعينات، ثم تطور إلى قائد إنساني شجاع.

تشرشل ولد ومات استعمارياً، أما ديغول فحينما انسحب من المسرح السياسي، فقد انسحب بوقار وجلال وعظمة.

وحينما نتحدث عن ديغول، وعن الأمس، فإننا في الواقع نتحدث أيضاً عن الحاضر، وعن ديغول الاستشراف والمستقبل.

بعد وفاة ديغول، ظلت فرنسا في مركز الاهتمام العربي، باعتبارها قوة سياسية واقتصادية وثقافية مهمة. إن ما نسب إلى الرئيس الأسبق ميتران قوله إن سياساته تجعل ديغول فخوراً بها. ربما تكون صحيحة في الإطار الأوروبي، والعلاقات العربية - الفرنسية، وخصوصاً حينما أضفى الشرعية على منظمة التحرير الفلسطينية، واعترفت فرنسا بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة وطن له. وقد تم ذلك في إطار من التوازن الفرنسي في علاقاتها بأطراف الصراع العربي الإسرائيلي.

إذن، إرث ديغول، رغم تغيّر الظروف، والتحولات في البيئة الدولية، ظل إلى حد كبير مستمراً أو هادياً لثلاثة رؤساء جمهورية على الأقل من بعده.

لكن يبدو، أن ضغوط البيئتين الداخلية والدولية، والتحولات العميقة التي جرت في العقدين الأخيرين، وبروز القطبية الأحادية، والتغيرات التي أصابت الأمن الدولي، والتوازنات الدولية الجديدة، ونشوء هواجس فرنسية داخلية مستجدة، وهجرات أجنبية واسعة، وانهيار الكتلة الشرقية، وتوحيد الألمانيتين،، وغيرها من العوامل المهمة، قد تركت آثارها وبصماتها على السياسات والقيادات الفرنسية، وعلى رؤيتها للعلاقات العربية - الفرنسية.

ففي الوطن العربي بعامة، والخليج العربي بخاصة، بأهميته الجيوبوليتيكية والإستراتيجية، وكمصدر للطاقة وكمعبر للتجارة، وكجوار متوسطي، وروابط تاريخية وثقافية وسكانية عبر العصور، تستحق أن تشكل أساساً لقاعدة صلبة للعلاقات العربية - الفرنسية.

إن التعاون الأوروبي - العربي، والخليجي بشكل خاص، مازال متعثراً أو أقل من الطموح، وها هي عملية برشلونة تحمل معها كل معايير الإخفاق. ففي أوروبا لا توجد رغبة جادة أو ربما إرادة، وهناك عيبٌ فينا كعرب. فنحن نذهب إلى أوروبا فرادى، كفتيات جميلات يذهبن إلى مباراة للجمال، لاستعراض جاذبيتهن الخاصة.

وها هي الآن مناخات مقلقة تسيطر على العالم كله، من عولمة متوحشة انفلت فيها النظام المالي العالمي بلا ضوابط ولا رقابة ولا قيم إنسانية أخلاقية، وها هو كيسنجر وأستاذ الاقتصاد بجامعة هارفارد (مارتن فيلد شتاين) يمهدان لغزو استعماري جديد للعالم العربي، من خلال مقال خطير نشر في سبتمبر ،2008 دعوا فيه إلى تشكيل تحالف للدول الصناعية الكبرى والهند والصين للسيطرة والتحكم بنفط الدول الصغرى، والحيلولة دون انتقال للثروات إلى الدول النفطية العربية، ومنع استثمار فوائضها المالية عبر الصناديق السيادية.

وفيما يتعلق بالنفط، فإن قصته يجب أن تروى بكل صراحة. ولنتذكر جميعاً، إن ثلاثة أرباع سعر البنزين في محطات الوقود في بريطانيا على سبيل المثال هي ضرائب حكومية، وما تكسبه الحكومة البريطانية سنوياً من هذه الضرائب نحو 45 بليون دولار، وهي أرباح صافية. في حين أن ليبيا على سبيل المثال التي تنتج من النفط ما يعادل ما تستهلكه بريطانيا، تحصل على 36 بليون دولار، ناقصة تكاليف الإنتاج. وهنا يبدو أن الدولة النفطية هي بريطانيا وليست ليبيا. وكذلك الحال مع دول أوروبية عديدة.

إن أمن الطاقة، يمكن أن يتحقق من خلال فهم وتقدير احتياجات المنتجين والمستهلكين، وليس من خلال الوسائل العسكرية أو الابتزاز السياسي، وهي وصفات فاشلة بكل المعايير.

(4)

إن لحظات التألق والاستنارة في فرنسا، شكلت عبر التاريخ، مصادر إلهام للساسة والمثقفين في العالم العربي. وقد كان ديغول نموذجاً لهذه اللحظات التاريخية.

أما اللحظات الكئيبة، والمناخات السلبية في فرنسا، فإنها عادة ما شكلت مصادر قلق للعرب، وربما بقية العالم. وأُصارحكم القول، فإن مخيال الأجيال العربية عن الإرث الديغولي، يعيش الآن لحظة قلق وخوف، خاصة حينما يتحول مناخ الحرية في فرنسا حارسة حرية التعبير في أوروبا إلى مناخ يسمح بتكميم أفواه مثقفين فرنسيين، من أمثال (برونو غيغ Bruno Guigue). ويتم فصله من عمله، لأنه تجرأ على نقد جيش الاحتلال الإسرائيلي وهو يصطاد الأطفال الفلسطينيين وهم عائدون من مدارسهم.

كما تصاب الذاكرة بإحباط، وهي تستحضر ذكرى ديغول وإرثه الإنساني. في وقت يعم فيه الصمت الفرنسي في الوقت الراهن، حول ما خلفته حروب احتلال المستعمرات الفرنسية السابقة، وقمعها لشعوب الجزائر والمغرب وتونس والكاميرون ومدغشقر والهند الصينية، والتي خلقت من المآسي والدماء والآلام، ما يبدو الاستعمار الإيطالي لليبيا، قياساً عليها هامشياً وعابراً وصغيراً.

هل لو كانت الديغولية، في عافيتها ورمزيتها ستصمت عن إبداء الندم، وعن التعويض للضحايا وأحفادهم؟ وإذا كانت فاتورة إيطاليا قدرت بنحو خمسة بلايين دولار، فإنه من المقدر أن تتجاوز الفاتورة الفرنسية 50 بليون دولار، وفقاً لتقديرات مجلة (جون أفريك)، في السابع من سبتمبر/ ايلول 2008.

هل كان ديغول الإنسان والشجاع، سيبقي ملف جرائم الإبادة مغلقاً، وهي الجرائم التي نفذتها الجيوش الفرنسية في الجزائر على مدار 132 عاماً، والتي أخذت أشكالاً رهيبة، بدأت بالأفران، مروراً بالتجارب النووية التي ابتلعت عشرات الآلاف من الجزائريين، وبمجازر بشعة للمنظمة السرية الفرنسية؟

(5)

من ناحية أخرى، يدق جرس إنذار في مخيال الأجيال العربية المعاصرة، وهي تتذكر الإرث الديغولي، وخشيتها من إمكان حدوث تغيرات انقلابية في السياسة الفرنسية الشرق أوسطية الراهنة، مغايرة للتوجهات الاستراتيجية التي أرسى دعائمها ديغول منذ عام ،1958 بدءأً من الانحياز لسياسات دولية متطرفة، وللسياسة الإسرائيلية الرافضة للسلام العادل والشامل، والمصرة على مواصلة احتلالها وقمعها للشعب الفلسطيني، والمتجاهلة لكل المبادرات العربية والقرارات الدولية ذات الصلة. إضافة إلى تحولات في السياسة الدفاعية الفرنسية وتحولها إلى قوة تدخل في قوس الأزمات الممتد من موريتانيا إلى أفغانستان.

تساؤلات عديدة، تطرحها الذاكرة العربية، فهل ستتواصل الانقلابات على الديغولية؟ وهل سيوضع مبدأ الاستقلالية على الرف؟

الأجيال العربية الشابة، ما زالت ترى في فرنسا، التنوير والحرية والثقافة، فرنسا العصية على الحكم من الداخل كما من الخارج. كما لاحظ عن حق الجنرال ديغول، فرنسا ذات 365 ذوقاً على عدد أنواع الجبن الفرنسي.

ماذا سيقول ديغول الآن، والحضارة الإنسانية المعاصرة، تتطرف في اتجاه تسليع الإنسان والمتع الحسية والملذات والنسبوية الأخلاقية، في أزمنة عولمة متوحشة، بلا ضوابط ولا رقابة وفوضى وتطرف وعنف في العلاقات الدولية.

هل يمكن أن يشكل فوز الفرنسي (جان ماري غوستاف لوكليزيو)، بجائزة نوبل للآداب عام ،2008 كوّة في جدار هذه العولمة المتوحشة. خصوصاً أن غوستاف يجسد الإشعاع الثقافي الفرنسي، الباحث عن صوت الآخر، والكاشف للتشوهات التي أصابت روح الإنسان المعاصر؟

هل يمكن للمبادرة الإماراتية الفرنسية، في بناء جسر حضاري متمثل في سوربون أبوظبي، وفي تبادل ثقافي وفني واسع بين الإمارات وفرنسا، وبدعم مباشر ومخلص من قيادة الإمارات العربية المتحدة، أن تشكل فرصة تاريخية، لإعادة الاعتبار للعاملين الثقافي والإنساني ودورهما الحيوي في بناء علاقات دولية، أكثر إنسانية، وأعمق تأثيراً، وأكثر قابلية لتحقيق السلام والأمن والتعاون الدولي.

(6)

كلمة أخيرة..

قال ديغول يوماً، وهو يتحدث عن العلاقات العربية - الفرنسية:

هناك دول في طريق التطور على الشاطئ الآخر من البحر المتوسط، لديها حضارة وثقافة، ولديها مفهوم للروابط الإنسانية نكاد نفقده في مجتمعاتنا الصناعية.

وإذا أردنا حول هذا البحر المتوسط، الذي هو بمثابة القابلة لتوليد حضارات عظيمة، بناء حضارة صناعية لا تخضع لمقاييس النموذج الأمريكي. حضارة يصبح فيها الإنسان غاية في حد ذاته، وليس مجرد وسيلة. إذن، يجب أن تنفتح على مصاريعها أبواب ثقافاتنا على بعضها بعضاً.

وحينما سُئِل، لماذا لم يعرض رؤيته هذه على الرأي العام الفرنسي؟ أجاب: كنت أخشى ألا أكون مفهوماً، ثم هز رأسه وقال: وأخشى عندما يصبح هذا مفهوماً في يوم ما، ألا يكون هذا اليوم قد جاء متأخراً كثيراً.

.....

.....

في ذكرى ديغول، نردد معه قوله: نحو الشرق... إنني أطير بأفكار بسيطة.

* المدير العام السابق للمعهد الدبلوماسي

(وزارة خارجية دولة الامارات العربية المتحدة) والمقال هو نص للخطاب الذي ألقي أمس

في مؤتمر ديغول والعالم العربي الذي تنظمه جامعة السوربون أبوظبي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"